د. إبراهيم نجم

قراءة التراث بين الحداثة والسلفية

الثلاثاء، 18 فبراير 2020 09:13 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هناك معركة كلامية تدور الآن حول قضية التجديد، فهى قضية الساعة بلا خلاف، وفى إطار الكلام عن التجديد ومقاصده ووسائله تبرز تلقائيا قضية أخرى هى قضية التراث كيف نتعامل معه، وما نذر منه وما نأخذ، ويدور كلام طويل حول مناهج التراث وكيفية الاستفادة منها ومسائله التى تجاوز بعض منها حركة التطور الواقعية بأوجهها الأربعة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ثم يبرز فى ثنايا هذا الكلام الحديث عن السنة المطهرة وعن تنقيتها من الدخيل والباطل وما يعارض القرآن والعقل، وعند الحديث عن السنة تبرز تيارات تختلف نظرتها إلى السنة توثيقا وعملا واستدلالا، التيار الأول هو تيار الحداثة حيث ينظر إلى كتب السنة على أنها مجرد مرويات «عنعنة» لم تخضع للدرجة العالية من الدقة والتوثيق، ومن ثم فإن تعاطينا معها لا يفرق عن أى كتب تراث أخرى، وهم بذلك يتجاهلون تلك الجهود الجبارة التى بذلها المحدثون فى جمع وتوثيق السنة النبوية المطهرة ويتجاهلون أيضا كل علوم السنة التى قامت حول توثيق الإسناد وحفظه وصيانته من أى دس أو تحريف، وعدم المعرفة بعلوم الإسناد يؤدى إلى تسطيح معنى الرواية فى صورة (فلان عن فلان)  وياليتهم تعمقوا فى فهم علوم الإسناد والتوثيق قبل أن يقعوا فى الإنكار الذى لا معنى له ولا مبرر، إذ إن الدقة العالية التى ابتكرها علماء الحديث فى توثيق النصوص قد شهد بها كبار المفكرين الغربيين واعتبروها من مفاخر حضارة العرب واستفادوا منها فى تطوير علوم التوثيق عندهم، والذى أوقع فئة الحداثيين فى هذا الغلط تصادمهم مع ظواهر النصوص التى زعموا أنها معارضة للعقل أو لمكارم الأخلاق ولم يفهموها على وجهها الصحيح فى إطار من جمع كل ما ورد فى القضية مع استعمال قواعد الأصول والاستنباط التى استعملها المجتهدون فى التعامل مع هذه الظواهر، لقد اتخذ الحداثيون موقف الرفض، ولم يفطنوا إلى أن هذه الطريقة لو تعاملوا بها مع القرآن الكريم سوف تسبب لهم مشاكل كثيرة وتوقعهم فى تناقضات لا نهاية لها، لأن المنهج سطحى واجتزائى ويعمل فى النصوص بمعزل عن قواعد الأصول وبعيدًا عن فهم مقاصد وأسرار التشريع، ومن ثم فإن أى كلام عن التجديد من قبلهم لن يكون إلا إنكارا للتراث الذى هو واقع، أو هدما له بالكلية، أما الفئة الثانية فهى وقفت عند نفس نقطة ظاهرية النص التى أنكرها الحداثى لكنه لم يعمل مناهج الاستنباط ولا فهم قواعده ففهم الظاهر من النص كما هو دون أن يجمع جميع النصوص ودون أن يعمل القواعد اللغوية والأصولية فوقعوا فى حالة كبيرة من الجمود والتشدد والعنف والتكفير، والمنهجان الحداثى والسلفى حقيقتهما واحدة، وهى رفض المنهج والتعامل مع النصوص بظاهرية وبناء على ذلك، فالحداثى ينكر النص الثابت بالفعل، والسلفى يجمد عليه متجاوزا مقاصد الشريعة وعللها وأسرارها المبثوثة فى التشريع، وهذه الظواهر الناشئة التى تتعامل مع النص الشرعى بلا منهجية لم تكن موجودة قبل ذلك فى تاريخ الإسلام، نظرا لوجود المنهج المتكامل المكون من عدة علوم يستعملها العلماء فى توثيق وفهم النص المقدس ومن أهم هذه العلوم علوم الحديث وعلم أصول الفقه وعلوم اللغة العربية، وهذه العلوم ليست علومًا مخترعة اخترعها العلماء من عند أنفسهم حتى تكون لهم السيطرة على فهم وتوجيه النص، ومن ثم التحكم فى دلالته وحمل الناس على ذلك كما يحلو لبعضهم أن يفهم الأمر على هذا النحو ويدعى أن هذه العلوم، يعنى علوم الشريعة وأصول التوثيق والاستنباط، لا أصل لها وهى مخترعة اختراعا من قبل أهل العلم، وهذا الكلام لم يستطع حتى أعداء الإسلام أن يفكروا مجرد تفكير فيه، لأن هذه العلوم جميعها كانت ملكات موجودة عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يستنبطون بواستطها الأحكام والمعانى من النصوص الشرعية، وأما عمل العلماء فقد استخرجوا هذا المنهج وجردوه من فتاوى الصحابة، رضى الله عنهم، ومن خلال النظر أيضا فى تصرفاتهم وأقضيتهم حتى إننا لنستطيع أن نرد مدرسة أهل الرأى إلى طريقة الإمام على بن أبى طالب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعائشة رضى الله عنهم جميعا، ونستطيع أن نرد مدرسة أهل الحديث إلى فقه عمر بن الخطاب وابن عمر وأبى هريرة وعبدالله بن عمرو وغيرهم، فمن أتى بعدهم مفرع عليهم ومنظر لأصولهم مستخرج لها ومدون لها، وهذا هو معنى الوضع الذى عناه العلماء بأن الشافعى مثلا واضع علم الأصول، فالوضع هنا بمعنى الكشف والتدوين والتقسيم والشرح لا بمعنى الإنشاء والابتكار، هذه حقيقة يغفل عنها كثير من المتجادلين اليوم فى شأن قضية التراث والتجديد التى ظلمت كثيرا بأن حولها البعض إلى جدال عقيم وسفسطة لا معنى لها، وليت الذى لا يعلم يتعلم، ويراجع نظره بإيجابية وواقعية إلى ما دونه العلماء، والإسلام لا يمنع أحدا من الفكر والاجتهاد وإبداء الرأى شريطة أن يكون هذا الفكر والاجتهاد مصحوبا بالعلم العميق الذى يفرق بين الاجتهاد وبين الفوضى  والهدم، إن تراثنا العلمى والفقهى والحديثى ثروة حضارية تستحق منا المحافظة عليها والاستفادة منها منهجيا ونحن نمضى فى مسيرة التجديد، والمحافظة على ما بناه الأوائل هى المحافظة على هويتنا وتضييعه وهدمه تضييع للهوية.

 









الموضوعات المتعلقة

 من هم الأشاعرة؟!

الثلاثاء، 11 فبراير 2020 10:00 ص

 التجديد استكمال بناء لا هدم

الثلاثاء، 04 فبراير 2020 07:00 ص

مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة