فكرة الوطن ليست فى أدبيات جماعات التطرف الدينى، فهم ينكرون فكرة الدولة من الأساس، ويرون أن الانتماء يكون للمنهج وليس للمكان، فمن على شاكلتهم فى فكرهم فهو منهم وإن كان فى أقصى الأرض وهو مقدم على قريب الدم، فضلا عن سائر مواطنيهم، ولذا تراهم يتأقلمون سريعا فى العيش مع جنسيات أخرى على أى أرض، كما يفعل الهاربون الآن فى الدول التى فتحت أراضيها وخزائنها للمعادين لأوطانهم كقطر وتركيا، وترى هؤلاء وهم يتحدثون عن وطنهم الذى تربوا على أرضه وأكلوا هم وأهلوهم من خيراته كأنهم يتحدثون عن بلد عدو لهم، وترى القنوات التابعة لهم والفيديوهات والتغريدات التى يغردونها على مواقع التواصل تطفح بالأكاذيب والتحريض على الدولة بكل ما فيها من قيادة وجيش وشرطة، مع أن من قل حظه من العقل يعلم بأن هذا يعنى تمنى انهيار الدولة واختفائها من على خارطة العالم، فدولة بلا قيادة ولا جيش ولا شرطة لا تملك أدنى المقومات لاعتبارها، ولست أدرى إن كان هؤلاء لا يعنيهم جيش بلدهم ولا شرطته ولا قيادته مع ما يعنيه هذا من ضياع الشعب بكامله، هل يستثنون من ذلك أعمامهم وأخوالهم وربما آباءهم وأمهاتهم وبعض أولادهم ممن لا يزالون على أرض هذا الوطن الذى كفروا به، أو أنهم كفروا بهم أيضا لأنهم ارتضوا المقام فى هذا الوطن الذى لا يعترفون به؟!، وهؤلاء فى الحقيقة غير زاهدين فى هذا الوطن الذى يسعون ليل نهار لهدمه بل يسعون للسيطرة على مقاليد حكمه، وهذه الرغبة التى لا ينكرونها والتى هى أساس المشكلة تدل دلالة كافية على كذبهم وتناقضهم، فمن زهد شيئا لفساده عليه أن يتركه لمن يرضون به على فساده، وينطلقون هم فى حياتهم فى الأوطان البديلة التى ارتضوها لمقامهم.
إن فكرة الانتماء لوطن ليست بدعة حتى يكفر بها هؤلاء الذين يزعمون أنهم الأعرف بالدين وأحكامه، وهم من أجهل خلق الله به، لقد عاب رب العالمين فعل يهود المدينة حين تسببوا بصلفهم وغرورهم ونقضهم العهد مع المسلمين من تخريب موطنهم بقوله، تعالى: «يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار»، وهذا هو ما يحاول هؤلاء فعله بأوطانهم تماما، ولعل هؤلاء ينطلقون بفكرة التنصل من الوطن بفهم خاطئ لمثل قوله تعالى «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون»، فخطاب كتاب الله ليس فيه ثقافة الدولة وإنما الخطاب للأمة، وهذا حق أريد به باطل فالأمة واحدة فى عقيدتها وإيمانها بالله ربا واحدا وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، رسولا لها بكاملها، وأركان دينهم لا تختلف فى مكان عن مكان على ظهر الأرض بعد أو قرب، كما أن المحرمات هى هى، والمندوبات والمكروهات كذلك.. ولكن هذا لا يمنع فكرة الدولة التى ينتمى إليها جمع من الناس على أرضها يحتاجون إلى من يدير أمورهم السياسية والإدارية ويحمى حريتهم الدينية، فلا تعارض بين عمومية الأمة وخصوصية الدولة، ولقد كون رسولنا دولة الإسلام الأولى على أرض رقعة جغرافية معلومة هى المدينة المنورة قبل أن تتوسع على الأرض لتبلغ أطراف الدنيا، وقبل أن تتقلص مرة أخرى فتقسم إلى دول ويخرج من نطاقها بعض ما كان منها كالأندلس، فالدولة تزيد وقد تنقص والأمة تزيد وتنقص من حيث العدد لكن شريعتها لا تختلف بين أتباعها.
لم يتعلم هؤلاء من رسولنا الذى يزعمون أنهم يسيرون على نهجه كيفيّة حب الوطن والانتماء له، فكلنا يعلم كم تأسى رسولنا على خروجه من مكة فارا بدينه وليس رغبة عنها، وكيف عبّر عن هذا الأسى وهو يقول: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إلى!، ولولا أن قومى أخرجونى منك، ما سكنت غيرك»، وحين عاد إليها فاتحا كان الوفىّ لوطنه ومن فيه ومن بينهم من آذاه وصحابته فلم يعاقبهم ولم ينكل بهم وقد أصبحوا فى قبضته، وسألهم عن توقعهم لما قد يفعله بهم: «ما ترون أنى صانع بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال، صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء». إن هؤلاء ليصدق عليهم قول ربنا: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ»، وسواء أكان المراد توليتم عن كتاب الله وأحكامه واتبعتم هوى أنفسكم والشيطان ففسدتم فى أنفسكم وأفسدتم غيركم وقطّعتم رحم قرابتكم بسوء أفعالكم وبعدكم عن كتاب ربكم، أم كان المراد كما ذكر بعض المفسرين إن توليتم حكم الناس أن تفسدوا وتحيدون بالحكم عن طريقه القويم وتفسدون الرعيّة بسوء تدبيركم لأمورهم.
إن تعاون هؤلاء الجاحدين مع أعداء أوطانهم ومشاركتهم التخطيط والتدبير لأعمال إرهابية للنيل من أوطانهم، والذى وصل بهم لاستعداء المنظمات والدول وجيوشها على بلدهم، ودعواتهم الصريحة بالتطوع فى صفوف من يقاتلون جيش بلادهم لهو الخيانة فى أحط معانيها والجريمة التى يصعب محوها ورفع آثارها من النفوس وإن ارتفعت عقوباتها لسبب من الأسباب.
لا مانع شرعا ولا قانونا من أن يعبر المواطن عن رأيه فى كل شىء ما لم يكن حُكما شرعيّا مقطوعا به، وله أن يحب أو يكره من شاء بحسب تقديره الشخصى، وله أن يعبر عن ذلك كله ولكن فى إطار مشروع وبضوابط محددة لا تتجاوز حدود إبداء الرأى دون حشد ولا تخريب ولا اعتداء، فمتى جنح لشىء من ذلك دخل دائرة المخالفة التى توجب عقابه بما يناسب جريمته، ويذكر فى هذا أن سيدنا عمر بن الخطاب وهو أمير للمؤمنين، قال لأبى مريم السلولى، وكان قد قتل زيد ابن الخطاب فى حروب الردة قبل أن يسلم: «إنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح، فرد عليه قائلا: أو تمنعنى بذلك حقا لى؟ قال أمير المؤمنين: لا. قال أبو مريم «إذا لا ضير يا أمير المؤمنين إنما تأسى على الحب النساء»، فهذا مبدأ يوجب الفصل بين بغض الشخص أو حبه لآخر وبين إعمال الأحكام والقوانين وإعطاء الحقوق، وأن المراد فى أحكام الدنيا على السلوكالظاهر ومدى الالتزام بالقوانين والنظام العام، وليس من حق أحد من البشر الحساب على النوايا الباطنة فلا يحاسب عليها إلا من يعلم السر وأخفى.
ولا يُرجى بهذا العرض المبيّن بإيجاز لما عليه جماعات التخريب وهدم الأوطان من باطل هدايتهم أوردهم لجادة الصواب، فهؤلاء لا يسمعون إلا صوت أنفسهم ومن على شاكلتهم، ولكن المقصود هو الشباب المنخدع بهؤلاء بفضل كتائبهم الإلكترونية التى تتقن تزييف الحقائق وترويج الأكاذيب وتصوير من سلّطوهم على الشباب بأنهم المنقذ لهم والمتبنى لآمالهم وطموحاتهم، وكان يمكن أن يلتمس بعض عذر للشباب المصدق لهم والواقع فى شراكهم لو كان هؤلاء لم يصلوا إلى موقع المسؤولية يوما، أما وقد وصلوها ولم يعرف لهم ما يحزن الناس على فقده، بل راجت فكرة منح سيناء للفلسطينيين، وقويت شوكة الإرهاب فى سيناء وعموم البلاد، وراح ضحيتها ما يصعب حصره من الأنفس والأموال، فمن صدقهم وانخدع بهم بعد أن رأى بأم عينه فساد حالهم وفشل إدارتهم فقد ظلم نفسه وعقله الذى وهبه الله له. حفظ الله مصرنا ورد كيد الكائدين فى نحورهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة