لو قدَر لنا أن نقرأ المستقبل حين صدر قرار إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الغراء وهو القرار رقم 91 لعام 1959، لما كنّا سنجد أفضل من عبارة "لتكن هناك كلية للاقتصاد والعلوم السياسية، ولتكن منارة للنخبة من الآن فصاعدًا".. لتعبر عن مسيرة أكثر من ستة عقود من الالتزام والتميز والرقي.
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هذا الاسم الذي متى وقع على أذن مستمع، ورن في خاطرته، تجده يتطلع نحو صاحبه بكل انتباه واحترام، متوقعًا كياسة صاحبه وحسن تصرفه. فكلية الاقتصاد والعلوم السياسية كانت ولا زالت رمزًا لتفرد خريجيها وأكاديمييها وطلابها. ولكن كيف هذا؟
في هذه المقالة وفي سطور وجيزة نحاول وصف تلك السيرة الناصعة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حتى يمكن لقارئها أن يقف على مواطن التميز ورحلة الإنجاز التي وصلت بهذه الكلية لمكانتها الراهنة. تلك الكلية التي كان هدفها الرئيسي منذ لحظة إنشائها المشاركة بالمعارف والكفاءات في دعم عملية التنمية الشاملة والمستدامة.. عبر دراستها وتحليلها والتنبؤ بمشكلاتها ومآلاتها، حتى يمكن لصناع القرار أينما كانوا أن يقوموا بإيجاد حلول واقعية وعملية لتجاوز المشكلات وتحقيق غايات الوطن الكبرى.
ومن الجدير بالذكر أن الكلية.. وفي سياق إعداد ملف اعتمادها من الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد خلال العقد الماضي.. اختارت لنفسها شعارًا مكونًا من ثلاث كلمات تعكس تفردها وتميزها وهو "التزام- تميز- رقي". وهناك خمسة أسباب يمكن أن تكون مدخلًا مناسبًا لفهم أسباب نجاح هذه المؤسسة الفريدة وشعارها:
السبب الأول أنه وعبر ستين عامًا من تاريخها قدمت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية خلاصة خبراتها وجهودها من خلال عشرات البحوث والدراسات الموجهة لصناع السياسة العامة في جمهورية مصر العربية، سياسةً داخلية كانت أو خارجية، خدمةً للاقتصاد أو للسياسة أو المجتمع والبيئة وغيرها من شتى المجالات حيوية الأثر لوطننا العزيز.
علاوةً على ذلك فقد كانت الكلية منبراً أكاديميًا لنشر الوعي بمختلف القضايا المعاصرة والمشكلات الراهنة وتثقيف الرأي العام.. عبر مقررات دراسية تهدف إلى تنمية معارف ومهارات طلابها، أو من خلال ندواتها ومؤتمراتها التي تشرك فيها الكلية مختلف أطياف المجتمع ذوي المصلحة والاهتمام، أو من خلال مشاركة أكاديمييها في مختلف المؤسسات المحلية والدولية وإسهامهم في دعم وتحسين عملية اتخاذ القرار في تلك المؤسسات أينما كانت.
السبب الثاني أن الكلية اعتادت منذ نشأتها على قبول أكثر الطلاب تميزًا في مصر، ولم لا وهم الحاصلون على أعلى الدرجات في الثانوية العامة، وقد اعتادت الكلية ضم طلابًا من شتى محافظات المحروسة من أسوان وحتى الإسكندرية إلى أن تم تطبيق التوزيع الجغرافي والإقليمي على طلاب الثانوية العامة.. وهو ما حرم الكلية من ميزة أساسية من مميزاتها وهي التنوع الثقافي والاجتماعي بين طلابها.
السبب الثالث يتمثل في تميز هيئة التدريس بها، حيث ضمت الكلية عبر تاريخها أساتذة عظاماً ممن حصلوا على أعلى الجوائز العلمية والأوسمة في مختلف المجالات وتولوا أرقى المناصب المحلية والدولية، فمنهم علي سبيل المثال لا الحصر الدكتور بطرس بطرس غالي رئيس قسم العلوم السياسية والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، والدكتور رفعت المحجوب عميد الكلية ورئيس مجلس الشعب الأسبق، ناهيك عن كوكبة من الأساتذة والخريجين الذين تولوا حقائب وزارية هامة مثل وزارات الخارجية، والمالية، والتجارة والصناعة، والشئون الاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، والتخطيط والتنمية الاقتصادية، الاستثمار، التموين، الاقتصاد والتعاون الدولي، الشباب،البيئة، والهجرة.
أما السبب الرابع لتفوق الكلية فيكمن في فرص التوظيف واسعة النطاق التي يحظى بها خريجوها. فالكلية تخرج باحثين في مجالات السياسة والاقتصاد والإحصاء وهناك طلب من مؤسسات الدولة المختلفة على المتميزين منهم ليس فقط لمستواهم العلمي ولكن لسماتهم الشخصية المتميزة التي يعبر عنها انضباطهم وسلوكهم السوي.
والسبب الخامس هو تمكن الكلية على مدار ستين عامًا من الارتقاء المستمر بأدائها الأكاديمي لتصبح من أعظم المؤسسات التعليمية والبحثية في مجالات الاقتصاد والعلوم السياسية والإحصاء على مستوى العالم العربي والشرق الأوسط، فهذه المؤسسة فضيلتها الأولى أنها لا تركن للفخر بالماضي ولكنها على سباق دائم مع نفسها نحو المستقبل.. مما أدى إلى اكتسابها مكانة مرموقة، وهو ما يرتبط بتحقيق التوافق بين مختلف عوامل النجاح من اجتذاب طلاب الثانوية العامة المتميزين، ووجود أعضاء هيئة تدريس مرموقين وتطوير مواردها الأكاديمية والمالية، ولذا يجد الطلاب بيئة أكاديمية مثالية ترعي التنوع الفكري والثقافي والمشاركة الطلابية.
ويعكس مكانة الكلية كونها الكلية الأولى في مصر التي تحصل على شهادة الاعتماد والجودة من الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد في مجال العلوم الاجتماعية عام 2011.. وقد تم تجديد هذا الاعتماد في عام 2017. كما يعكسه أيضًا كونها الكلية الحكومية الوحيدة في مصر التي تحصل على عضوية المؤسسة الأوروبية للتطوير الإداري في ثلاثة أعوام متتالية من 2018 وحتى 2020 وهي الخطوة الأولى نحو الاعتماد الدولي لبرامجها الدراسية.
ولهذا فكلية الاقتصاد والعلوم السياسية هي مدرسة النخبة، ومنارة الوعي ومنبع الكفاءات التي لطالما تحملت عناء التخطيط وشاركت في زخم التنفيذ وفرحة الإنجاز في مؤسسات الدولة المختلفة، وتولى خريجوها أعلى المناصب مستقبلين أسمى آيات الاحترام والتقدير.
ستون عامًا قد تشكل أقل من نصف عمر كليات أخرى في مصر وخارجها، ولكن تأكد عزيزي القارئ أن الستة عقود المنقضية من عمر كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تتميز بثراء المسيرة وعمق الأثر.
* عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة