كان المرض يشتد على الزعيم الوطنى محمد فريد فى ألمانيا، والذى أفضى إلى موته به يوم 15 نوفمبر 1919، وكان الزعيم الوطنى سعد زغلول فى فرنسا يقود «الوفد المصرى» الذى سافر إلى أوروبا يوم 11 إبريل 1919 لعرض قضية استقلال مصر عن الاحتلال البريطانى، وبدأ بمؤتمر الصلح الذى استهل أعماله فى باريس 18 يناير 1919، إلى 21 يناير 1920.
كانت الثورة المصرية تتواصل منذ انطلاقها فى 9 مارس 1919، وكانت الموافقة على سفر «الوفد المصرى» إلى أوروبا إحدى نتائجها، وتكون من سبعة هم: «سعد زغلول، وعلى شعراوى، ومحمد محمود، وعبدالعزيز فهمى، وأحمد لطفى السيد، وعبداللطيف المكيانى، ومحمد على علوبة»، وانضم آخرون بعد ذلك، وكان محمد فريد، أحد الذين تم الاقتراح بانضمامهم، لكن سعد زغلول رفض، حسبما يذكر عبدالرحمن فهمى، أحد زعماء الثورة السريين، ويكشف عن هذه القصة فى الجزء الثانى من مذكراته «يوميات مصر السياسية».
تشمل مذكرات «فهمى» بأجزائها الستة، المراسلات السرية بينه من القاهرة، وبين سعد زغلول فى أوروبا، ويذكر فى جزئها الثانى: «رأيت أنا وبعض المشتغلين معى بالحركة الوطنية أن يضم الوفد إليه حضرة محمد بك فريد رئيس الحزب الوطنى، حتى تظهر وحدة الأمة بأجلى معانيها، وحتى لا يقال إن فى البلد أحزابا تختلف فى طلب الاستقلال، ولكن رؤى بعد ذلك العدول عن ذلك».
كان «فريد» فى أوروبا منذ أن غادر مصر سرا عام 1912، بعد الاضطهادات القاسية التى تعرض لها، ومن بينها سجنه ستة أشهر من 16 أغسطس 1910عقابا على مقدمته لديوان «وطنيتى» تأليف على الغاياتى، وفقا للكاتب الصحفى صبرى أبوالمجد، فى كتابه «محمد فريد.. مذكرات وذكريات»، وطوال فترة غربته فى أوروبا، والتى استمرت سبع سنوات، أنفق كل ما يملك من أجل القضية الوطنية، ويذهب «أبوالمجد» إلى الاعتقاد بأنه: «لو بقى محمد فريد داخل مصر لقامت الثورة المصرية عام 1912 أو 1913»، ويضيف: «أؤمن بأنه لو بقى فى مصر ولم يقدر لثورة 1919 أن تنطلق إلا فى موعدها الذى انطلقت فيه وهو مارس 1919، لما كان هناك أدنى شك فى أن قائدها سيكون بالقطع محمد فريد، ولو أن الأمر كذلك لتغير وجه التاريخ فيما يتعلق بهذه الثورة ونتائجها».
إذا كان الأمر كما يذهب «أبوالمجد»، فلماذا رفض سعد ضمه إلى الوفد الموجود فى أوروبا؟ هل كان تنافسا؟ أم هناك أسباب موضوعية لهذا الرفض؟ يذكر عبدالرحمن فهمى نص خطابه إلى سعد بتاريخ 8 أكتوبر 1919، يقول: «إننى، وكثير من إخوانى، نستحسن أن يضم الوفد محمد بك فريد رئيس الحزب الوطنى، إلى أعضائه، ليتم بذلك عقد تضامن الأمة وتكاتفها، وتقطع بذلك قول من لا يزال فى قلبه مرض الحزبية، فأرجو أن يصادف اقتراحنا قبولا لديكم، توقيع: عبدالرحمن فهمى».
يكشف «فهمى» أنه تلقى ردا بخطاب مؤرخ يوم 7 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1919 ونصه: «حضرة صاحب العزة الفاضل عبدالرحمن فهمى، وصل تقريركم المؤرخ 18 أكتوبر، وصورة التقرير المؤرخ 24 سبتمبر، وأشكركم جميل الشكر على التفاصيل الواردة بهما، فأما ضم محمد بك فريد إلى الوفد، فقد رأى الوفد عدم التعرض له لما فيه من الخطر الكبير على القضية المصرية التى تحتاج على الدوام لعطف الحلفاء، بريطانيا وفرنسا وروسيا، والذين اشتهر فريد بك لديهم عموما، ولدى الفرنساويين منهم خصوصا، بممالأة أعدائهم، ألمانيا وتركيا والنمسا والمجر، والتدخل مع الخديو عباس حلمى الثانى وبولو، ممن ساءت سمعتهم كثيرا فى أوروبا، ولا يخفاكم أن الإنجليز كانوا يتهمون المصريين بأن حركتهم غير ذاتية، وحاصلة بدسائس من الترك والألمان، فضم مثل محمد فريد إلى الوفد من شأنه أن يؤيد مطاعن الخصوم ويشوه جمال نهضتنا، التوقيع: سعد زغلول».
بعد ثمانية أيام من رسالة «سعد» لـ«فهمى» توفى «فريد» يوم 15 نوفمبر 1919، فكتب «فهمى» إلى «سعد»: «علمنا رأى الوفد فى مسألة عدم لياقة ضم فريد بك إلى الوفد، فوافقنا على أسباب ذلك، على أن الأخبار الأخيرة أفادت انتقاله إلى رحمة الله»، يشن محمد علوبة فى مذكراته، «ذكريات اجتماعية وسياسية» هجوما كاسحا على «سعد» بعد أن انشق عليه: «فى باريس وصلنا خبر وفاة المجاهد الكبير محمد فريد رئيس الحزب الوطنى، الذى ضحى بثروته الواسعة وبوقته وصحته فى سبيل وطنه، وكان لموته، غريبا فقيرا مشردا، وقع أليم فى نفوسنا، وعرضنا على الوفد أن يسافر بعضنا إلى البلد الذى مات فيه، ألمانيا، ونسعى فى إرسال رفاته إلى مصر بدعاية واسعة النطاق، لكن سعد للأسف رفض بحجة أن أموال الوفد يلزم أن تصرف على القضية المصرية لا على جنازات الأفراد، وحاولنا أن نثنيه فلم نفلح، فخشينا الفرقة وسكتنا».