محمد حبوشه

حرب الاستنزاف التى مهدت لنصر أكتوبر

الجمعة، 02 أكتوبر 2020 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

على الرغم من مرور 50 عاما على الرحيل (نصف قرن) ما زال جمال عبد الناصر حاضرا وراسخا فى قلوب وعقول المصريين، بل إنه يظل ذلك العود الأخضر النابت فى حضن هذا الوطن العزيز، وهو نفسه (ناصر) الذى وصفه الشاعر الفلسطينى الكبير الراحل (محمود درويش): بأنه كان "طويلا كسنبلة فى الصعيد، جميلا كمصنع صهر الحديد، وحرا كنافذة فى قطار بعيد، كان صاحب الظل الأخضر الذى بعث فى سد أسوان خبزا وماء ومليون كيلوات من الكهرباء".

تمضى السنوات تباعا وتبقى صورة الرحيل وحول نعشه حشود من ستة ملايين مصرى خرجوا يبكون فى وداع (عبد الناصر) المهيب سرا كبيرا لا يستطيع أحد أن يكشفه، فقد كانت الشفرات الخاصة بين (زعيم) آمن بشعبه وسخر كل طاقته للنهوض به، فكان هذا الشعب هو صاحب قصة الحب الملهمة التى مازالت تنطق بها القلوب بمجرد ذكر اسم "جمال عبد الناصر"، الذى احتفلنا بذكرى رحيله الـ 50 قبل أيام قليلة بذات الزخم الذى صاحب رحلة وداعه عبر إذاعة الأغنيات التى تغنى بها كبار المطربين يوم رحيله فى 28 سبتمبر 1970.

ونحن نعيش الآن أجواء انتصار أكتوبر العظيم فى الذكرى 47، لابد لنا أن نتذكر (ناصر) الذى استوعب هزيمة يونيو 1967 وخطط على الفور لحرب الاستنزاف التى سجلت بطولات معجزة قادت إلى النصر فى معركة استرداد الكرامة، وبدأت (حرب الاستنزاف) فى مارس 1969، وهو تعبير أطلقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على العمليات العسكرية التى دارت بين القوات المصرية شرق قناة السويس والقوات الإسرائيلية المحتلة لمنطقة سيناء عقب حرب الأيام الستة التى احتلت فيها إسرائيل الأرض العربية فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان وسيناء، وانتهت بموافقة عبد الناصر على مبادرة وزير الخارجية الأمريكى (روجرز) لوقف إطلاق النار فى الثامن من أغسطس 1970.

ولأنها حكايات أسطورية لابد أن تروى لأجيالنا الحالية ليعرف الأحفاد حقيقة ما فعل الأجداد، كان ولابد لنا نحن نحتفل بذكرى أكتوبر التى واكبت 50 عاما على رحيل (عبد الناصر) أن نرصد مآثر الجندى المصرى الذى اعتمد فى كل الأحوال على إرادة قوية وعقيدة إيمانية وعسكرية راسخة من فجر التاريخ وحتى يومنا الحالى ليضرب أروع الأمثلة فى التحدى والفداء، والإصرار على المقاومة فى أسوء الظروف التى مرت عليه فى أعقاب الهزيمة المرة فى يونيو 1967.

بالطبع كانت هناك دروس كثيرة مستفادة من تلك النكسة، وليست "هزيمة" كما يقول البعض، لأنه بخسارة الحرب لم تنكسر الإرادة الوطنية، ولعل حجم المظاهرات التى انطلقت لرفض القرار الوطنى المسئول بتنحى عبد الناصر غير المسبوقة تحقق هذا المفهوم، فقد أكد هذا الطوفان الشعبى على عدم انكسار الإرادة الوطنية، صحيح أنك خسرت قطعة من أرضك وهناك هزيمة عسكرية بكل المقاييس على مستوى الدولة، ومع ذلك ظلت معنويات الشعب عالية، مايعنى انتفاء صفة الهزيمة، ومن ثم تمت عمليات إعادة بناء القوات المسلحة بشكل يدرس عالميا، خاصة أنه تم فى ظل ضغوط من جانب العدو، وبعد ضرب الطيران المصرى على الأرض فى 67 وأصبحت الأرض مكشوفة، وهو ما أوعز ببناء دوشم للطائرات بدعم من القطاع المدني، وبناء مطارات جديدة وممرات داخلها لتنفيذ الطلعات بشكل سريع.

ويهمنا أن نذكر فى هذا المقام، أن هذه الدروس المستفادة حققت التفوق لحساب القوات الجوية التى حاربت فى أكتوبر 73 فكانت هناك ثلاثة بطولات حقيقية خطط لها عبد الناصر، وهى أولا: إعادة بناء القوات المسلحة قبل 73، والبناء هنا ليس سلاح فقط بل أسلوب تدريب وابتكار أساليب قتالية جديدة، نظرا لأن سلاحنا كان أقل كفاءة مما كان لدى إسرائيل من الجيل الثالث من السلاح ممثلة فى طائرات "الفانتوم" بينما طائراتنا من الـ "ميج 17" التى تتبع الجيل الأول، والـ "ميج 21، و سوخوى 7 " التى تتبع الجيل الثانى.

ثانيا: التركيز على التدريب غير الطبيعي، ووسط كل ذلك برزت كفاءة ومهارة المقاتل المصرى ليصبح رقما صعبا فى ميدان المعارك، رغم ضعف العامل الاقتصادي، فضلا عن توقف الملاحة فى القناة التى كانت توفر العملة الصعبة لشراء معدات جديدة كانت قاصرة على المعسكر الشرقي، وهو الآخر كان تحت وطأة الحرب الباردة، الأمر الذى يمنعه بالضرورة من إمداد مصر بالسلاح الحديث كى لا يؤثر على كفاءته.

ثالثا: حافظ الجيش على نقل الخبرات من جيل أكتوبر إلى الأجيال التالية، ما حافظ على كفاءة الجندى المصرى المعروف بخير أجناد الأرض حتى اللحظة الحالية، وقد تجلت تلك الكفاءة القتالية المصرية للعالم فى مناورات "النجم الساطع" وغيرها من المناوات مع دول الغرب حين أذهلتهم مهارة الجندى المصري، رغم أننا كنا نشترك بطارات الجيل الثانى من "ميج 21"، وهى لا تضاهى تقنيات الـ" f14 وf15 "، لكن أسلوب الهجوم الجماعى المشترك فى لحظة واحدة أظهر تلك الكفاءة المصرية النادرة.

المهم أنه جراء فصل القوات الجوية عن الدفاع الجوى الذى تم إمداده بتكنولوجيا متقدمة، لتتكامل مع القوات الجوية والبرية والبحرية فى آن واحد بتدريب أعلى وكفاءة قيادة مستقلة، ما مكن قوات الدفاع الجوى من بناء 200 منصة صواريخ فى 200 يوم، وبتكلفة لاتزيد عن مليونى جنيه مصرى - كما هو مثبت فى متحف الدفاع الجوي" بالمقطم - بطريقة احترافية.

وتوالت منظومات التدريب والكفاءة التى كفلت تأمين سماء مصر حتى حرب 73، وبعد أن أدركت القيادة ضرورة استشعار الخطر قبل وقوعه، ففى حرب الاستنزاف كان هناك استهداف للمنشأت المدنية من جانب العدو الإسرائيلى تحت مسميات خاطئة، والادعاء بوجود أسلحة فى هذه الأماكن المدنية فى "بحر البقر، مصانع أبو زعبل، والمعادي"، واعتبارها مناطق عسكرية تبرر الاستهداف، ما دفع عبد النصر فى خطبته الشهير عام 70 إلى التوضيح بأن الغرض من هذه الهجمات ليس لضرب منشأت عسكرية، بل الهدف كسر إرادة الشعب المصرى مرة أخرى فى محاولة لإقناعه بأنه لايقدر على دخول الحرب، ولعل شيئا من هذا يحدث الآن فى محاولات كسر شوكة الجيش المصرى فى سيناء حاليا، ما يشير إلى أن عدوك يحللك بشكل صحيح دائما، ويعرف نقاط ضعفك وقوتك، ويعلم أن الإرادة المصرية هو حجر الزاوية فى كل شيء.

ونعود إلى بداية حرب الاستنزاف عندما أعلن (ناصر) عن استراتيجية جديدة تحمل اسم "إزالة آثار العدوان" وتعنى تحرير كافة الأراضى العربية التى احتلت عام 1967، لكنه أدرك أن التحرير يقف فى نهاية سلسلة من الخطوات الضرورية أهمها ترميم الجيش المصري، وهنا أراد الرئيس جمال أن يظهر موقفا حازما وأن لا يعطى إسرائيل لحظة راحه لقطف ثمار النصر، فقال عبارته الشهير "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة " وهنا بدأ فى خوص حرب عصابات تحافظ على جمرات النزاع مشتعله وكانت تلك بداية حرب الاستنزاف التى مهدت الطريق أمام انتصارنا العظيم فى حرب أكتوبر المجيدة.

 

وتأكيدا للأثر النفسى المخيف الذى خلفته حرب الاستزاف فى نفوس الإسرائيليين فقد كشفت وثائق إسرائيلية تتعلق بأسرار حرب الاستنزاف التى خاضتها مصر ضد القوات الإسرائيلية، فى الفترة ما بين عامى 1969 و 1970، وكذلك الخطط الإسرائيلية التى بلورها القادة الإسرائيليون بتل أبيب، للرد على إطلاق النار من طرف القوات المصرية بكثافة عام 1969، بمهاجمة خطوط الجيش المصرى وضرب مواقعه بالقرب من القاهرة وتدميرها، وكذلك مدن الدلتا والقناة وذلك لإحباط عبوره لقناة السويس.

 

وأوضحت إحدى تلك الوثائق التى تحت عنوان (الحرب المنسية) أن المصريين أطلقوا حوالى 40000 قذيفة فى يوم واحد، حيث كان قصفاً لم تشهده إسرائيل منذ احتلالها سيناء فى الـ 5 من يونيو عام 1967، وذلك على طول 120 كيلومتراً لقناة السويس، وأضافت الوثيقة أنه منذ هذا اليوم وطوال 17 شهرا تواصلت عمليات المصريين على طول القناة، وكذلك طالت الهجمات الإسرائيليين المقيمين على طول الحدود فى منطقة "كريات شموناه"، وحتى إيلات بصواريخ "الكاتيوشا" الروسية، موضحة أن 721 إسرائيلياً قتلوا خلال تلك المعارك.

 

لقد كانت هذه الحرب التى أطلقت عليها الوثيقة الإسرائيلية "الحرب المنسية" جزءاً من استراتيجية الزعيم المصرى الراحل "جمال عبد الناصر"، والتى شملت ثلاثة مراحل هى: الدفاع بصورة مستمرة لمقاومة أى مبادرة عسكرية إسرائيلية هجومية، واتخاذ إجراءات استباقية ضدها، والردع كخطوة هجوم قوية ضد إسرائيل لردع الأعمال الإسرائيلية، وذلك تمهيداً للمرحلة النهائية، وهى اقتحام القناة واسترداد سيناء.

 

فى كتابه "خط المياه ورجال الإطفاء" للباحث الإسرائيلى العقيد احتياط "إبراهام زوهار" الذى عرض فيه تاريخ حروب الجيش الإسرائيلى قال فيه: إن المناقشات الإسرائيلية التى دارت حول الأحداث الرئيسية لحرب الاستنزاف تطابقت بما جاء فى كتاب "حروب إسرائيل" الصادر عن معهد بحوث الدراسات الإستراتيجية الإسرائيلي، والذى يكشف عن محاضر اجتماعات مجلس الوزراء الإسرائيلى ومنتدى هيئة الأركان العامة خلال حرب الاستنزاف التى تضمنت تصميم الإسرائيليين على عمل هجومى ضد القاهرة يشل القوات المسلحة المصرية ويمنعاه من التخطيط لأى عملية عسكرية ضد إسرائيل لاسترداد شبه جزيرة سيناء.

 

وأوضحت وثيقة أخرى أن مصر كانت مصدر قلق كبير أمام أعين صناع القرار فى إسرائيل، وبالتالى عقدت جلسة طارئة فى 25 ديسمبر 1969 كان الغرض الرئيسى منها منع الحرب إذا فشلت تل أبيب فى تحقيق الهدوء على القناة، وذلك من خلال تعميق وتوسيع نطاق العمليات الجوية الإسرائيلية على أهداف عسكرية بالعمق المصري، وقال رئيس الأركان الإسرائيلى "حاييم بارليف" خلال الاجتماع: "إذا نجحنا فى جلب الحرب داخل العمق المصرى سيولد شعورا لدى عامة الناس فى مصر بالخوف وعدم خوض أى معركة ضد إسرائيل"، لكن الوثيقة أكدت أن إسرائيل لم تفهم فى ذلك الوقت أن قصف عمق مصر سيحفز الدب الروسى ضدها.

 

وأشارت إحدى الوثائق إلى أن تقديرات "جولدا مائير" وتقييمات السلطات الأمريكية من التورط السوفياتى فى النزاع بين مصر وإسرائيل كانت تقديرات خاطئة، حيث أوضح الأمريكيون أنه لا نستطيع أن نؤكد بالضبط دخول "الدب الكبير" فى المعادلة العسكرية، ولم تتردد جولدا مائير فى التعبير عن مخاوفها من مشاركة السلاح الروسى فى القتال، أو أنها سوف ترسل طيارين لتدريب المصريين، قائلة: "أنا لا أخجل أن أقول أننى أخشى من الروسي".

 

وترتيبا على ذلك أوضحت إحدى الوثائق أيضا أن مصر كان لديها فى وقت حرب السادس من أكتوبر عام 1973 مجموعة من كتائب صواريخ الدفاع الجوى وصل عددها لحوالى 87 كتيبة، منها 62 كتيبة صواريخ "سام 2" و25 كتيبة "سام 3"، وهو ما غير من موازين القوى داخل الجيش المصرى وساهم فى إحراز النصر فى حرب أكتوبر التى كانت سببا فى وحدة عربية شاملة، وموقف عربى موحد لم يشهده العالم من قبل، ولأول مرة فى تاريخهم المعاصر، ولذلك توج هذا التضامن بنصر عسكرى كبير فخر به الجميع.. فتحية تقدير واحترام لأرواح شهداء قواتنا المسلحة وأرواح شهدائنا من المدنيين الذين سالت دمائهم الطاهرة أيضا فى تلك المعركة لاسترداد الكرامة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة