د. عباس شومان

الملكيّة الخاصة بين الشريعة الإسلاميّة والأنظمة الاقتصاديّة الوضعيّة

الأحد، 11 أكتوبر 2020 11:24 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تختلف الأنظمة الوضعيّة فى تنظيم الملكيّات الفرديّة، فالأنظمة الاشتراكيّة تعتمد سياسة تضييق دائرة الملكيّات الفرديّة إلى أضيق الحدود، فى مقابل التوسع فى نظام الملكيّة العامة التى تديرها الدولة، حيث تكاد تقصر حدود ملكيّة الأفراد على الضروريات والحاجات الأساسيّة، بينما تتملك الدولة الأرض وما عليها وجميع الموارد ووسائل المواصلات والمصانع، وتتحكم فى الأسواق تحكما كاملا، فعلى الناس جميعا فى ظلها العمل، وعلى الدولة أن تضمن لهم مسكنا وطعاما وشرابا وأمور المعيشة التى لا يستغنى عنها، ومقصود هذا النظام المعلن هو المساواة بين الناس والقضاء على الطبقية، وقد يبدو هذا الهدف، المعلن إنسانيا، يراعى حاجات الناس حتى لا يوجد بينهم محروم فى مقابل وجود آخرين واسعى الثراء، ولكن الواقع العملى أظهر عيوبا وخللا فى التطبيق، حيث طُبق هذا النظام على الفئات الكادحة من الشعب، بينما لم يصبر عليه أصحاب النفوذ والسلطة، حيث تكدست ثرواتهم على حساب الفقراء، كما أضعف هذا النظام روح الجد والاجتهاد فى العمل، فالعامل يضمن حد الكفاية من غير نظر إلى الجهد الذى يبذله فى عمله، ولذا فلا فائدة ترجى من بذل الجهد والتعب،  كما قتل الملكات وعطل الفروق الفرديّة، حيث لا فرق بين الموهوب صاحب الملكات، ولا بين صاحب القدرات المحدودة فى العمل، وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على الإنتاج فى صورته النهائية مقارنة بالأنظمة الرأسماليّة، ونظرا لحالة الفقر التى أصابت غالب الناس فى ظل هذا النظام، وتراجع الإنتاج، وهو ما يعنى تراجع التنمية فى كافة مجالاتها، لجأت الدول القائمة على نظام الاقتصاد الاشتراكى إلى تقديم حوافز للمجدين فى العمل، وهو استثناء لا يتضمنه أصل النظام القائم على الاشتراك والمساواة بين الجميع، ومع ذلك لم تنجح هذه المحاولات، وفشل النظام الاشتراكى فشلا ذريعا، وسقط الاتحاد السوفيتى الراعى الرسمى لهذا النظام وتفتت دوله، أما النظام الرأسمالى فهو على النقيض من النظام الاشتراكى، فهو يتوسع فى إقرار الملكيّات الفردية، ولا تتدخل الدولة فى النشاط التجارى، فكل إنسان حر فى أن يتملك ما يشاء وأن يستثمر أمواله كيف يشاء، وكما فشل النظام الاشتراكى لتضييقه دائرة الملكيات الخاصة، فشل النظام الرأسمالى الذى فتح الأبواب على مصارعها للملكيّات الفرديّة، عن تحقيق السعادة لجميع مجتمعاته، حيث خلق طبقية بغيضة، وبونا شاسعا بين الأغنياء والفقراء، إضافة إلى سماحِهِ بالأنشطة الاحتكارية والممارسات التجارية الضارة بالناس، كالاستثمار فى الخمور والقمار والرهان وأماكن اللهو، وهذه السلبيات المترتبة على تبنى الأنظمة الاشتراكيّة أو الرأسمالية، لا تجدها فى نظام الاقتصاد الإسلامى، فهو نظام يضمن الهدف المعلن للنظام الاشتراكى، وهو تحقيق حاجات الناس مهما اختلفت قدراتهم وملكاتهم، فهو يقر الملكيّة الفرديّة على عكس الأنظمة الاشتراكية، وهو يخالف أيضا النظم الرأسمالية فى إقرارها للملكيّات الفرديّة، فيشتركان فى إقرارها بلاحد أعلى، وينفرد الاقتصاد الإسلامى بوضع ضوابط على كيفية التملك، وأخضع استثمارها لرقابة الدولة، بما يضمن نفع الملكيات لأصحابها وللمجتمع على السواء، كما أن الاقتصاد الإسلامى راعَى الفقراء ومحدودى القدرات، وذلك بضمان موارد تغطى هذه الاحتياجات، كالزكاة المفروضة فى أموال الأغنياء، والصدقات التطوعيّة التى حث الشرع القادرين عليها من غير إلزام، وهؤلاء هم من قصدهم الحق فى قوله: {وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ للسائل والمحروم}، وحتى لا تركن هذه الفئات الفقيرة إلى ما يدفعه الأغنياء لهم، حثهم شرعنا على السعى والعمل وقبول أى عمل يحقق لهم كفايتهم أو يزيد، وأن يترفعوا عن أموال الصدقات متى وجدوا ما يكفيهم، فشكر المتعففين: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}، كما أتاح نظام الاقتصاد الإسلامى المجال للاستفادة من القدرات والفروق الفرديّة حيث لم يلجأ إلى تحديد الملكيّات بحد أعلى، طالما من طريق مشروع كالميراث والكسب من مجال العمل والتجارة والهبة، وغير ذلك من طرق كسب الملكيّة، كما لم يجعل الأصل فى الأسواق سيطرة الدولة عليها كما فى النظام الاشتراكى، ولا تركها حرة من دون رقابة الدولة كالنظام الرأسمالى، وإنما أعمل قاعدة العرض والطلب التى تحقق مرونة الأسعار وتناسبها مع التكلفة الحقيقيّة للسلع والمنتجات، وتدخل الدولة حال استقرار هذه القاعدة مفسد لها، ويترتب عليه ظلم إما للبائع وإما للمستهلك، فإن اختلت هذه القاعدة بممارسة أنشطة احتكارية أو تواطؤ من التجار، تدخلت الدولة لإصلاح الخلل ومنع التجاوزات لا غير، وإذا اقتضى الأمر لعلاج هذا الخلل التسعير بالسعر المعتدل الذى لا يضر بالتجار ولا المستهلكين، جاز لها ذلك، مع أنه على خلاف الأصل، فقد امتنع عنه رسولنا حين طلب منه الصحابة ذلك، فعن أنس بن مالك  قال: «غلا السعر على عهد رسول الله فقالوا: يارسول الله سعّر لنا، فقال: إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإنى لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبنى بمظلمة فى دم ولا مال».ولكن أجازه فريق من الفقهاء، إذا خرجت الأسعار عن حد الاعتدال بفعل التجار لمنع الضرر الواقع على الناس «فلا ضرر ولا ضرار»، كما تتدخل الدولة لمنع أصحاب المال من استثماره فى التجارات المحرمة، كتجارة الخمور، والمخدرات، والأسلحة، والقمار، أو ممارسة الغش والربا، و فى ظل نظام الاقتصاد الإسلامى للدولة فى بعض الأحوال نزع بعض الملكيّات الخاصة لشق طريق أو مجرى مياه أو إنشاء محطة صرف صحى، أو أى مشروع ضرورى لا بديل عنه، مع تعويض المالك بأرض بديلة، أو الثمن العادل للأرض المنزوعة، فمصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، وإذا كان الإسلام قد أطلق الملكيّات الفرديّة ولم يجعل لها حدا تنتهى إليه، فإن الدولة تراقب وتلزم أصحاب هذه الأموال بأداء الحقوق المتعلقة بها، كإخراج الزكاة المفروضة، ومن واجبها معاقبة الممتنعين عن إخراجها لما فيه من هضم حقوق الفقراء المستحقين لها، كما وجهت شريعتنا أرباب الأموال إلى استثمار أموالهم وكرهت لهم اكتنازها، فإن الأموال لله وليست للبشر، وقد جعلها فى أيدى الناس خِلفة وأمانة يديرونها لمصلحة الناس ومصلحتهم، وتعطيل الأموال فيه إضرار لهم، لأن المال يتآكل بما يخرجه من زكاة كل عام، وبالإنفاق منه دون تنميته، كما يضر بمصلحة المجتمع لعدم تأثيره فى تيسير احتياجاتهم، وفى استثماره وتنميته منفعة للمالك بما يحققه من ربح، وللمجتمع بما توفره مشاريع الأغنياء من منتجات بأسعار معتدلة وفرص عمل للشباب، وكذا استخدام المال فى الاستيراد للسلع يدعم رخص أسعارها، وفهم فلسفة الملكيّات الفرديّة وضوابطها فى الشريعة الإسلاميّة يحقق مصلحة الجميع التى عجزت الأنظمة الوضعيّة عنها، بتضيقها الخانق فى النظام الاشتراكى، أو إطلاقها المفسد فى الرأسمالى.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة