"يؤسفنا أن ترفض عائلة جاك شيراك احترام عاداتنا الجمهورية".. هكذا قالت زعيم حزب الجبهة الوطنية اليمينى فى فرنسا مارين لوبان، فى تغريدة لها على موقع التواصل الاجتماعى "تويتر"، تعليقا على رفض عائلة الرئيس الفرنسى الأسبق مشاركتها فى جنازته، فى مبادرة تبدو عدائية، تجاه واحدة من أبرز الساسة فى باريس، خاصة بعد نجاحها المنقطع النظير فى انتخابات البرلمان الأوروبى الأخيرة، حيث اعتبرت أن قرار عائلة شيراك انتهاك صريحا بمشاركة ممثلى الشعب الفرنسى فى مراسم تأبين الرؤساء السابقين، لتعيد إلى الأذهان حالة العداء التاريخى بين شيراك و عائلة لوبان، منذ انتخابات الرئاسة الفرنسية فى عام 2002، والتى أسفرت عن فوز شيراك بفترة رئاسية ثانية فى ذلك الوقت.
ولعل العداء بين شيراك و آل لوبان ليس بالأمر الجديد تماما، حيث بدأ برفض الرئيس الأسبق خوض مناظرة انتخابية مع والد مارين لوبان، باعتباره ممثل القوى التى تراهن على الكراهية والتعصب، إلا أنه يعيد إلى الأذهان حالة العداء التى جمعت بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، و السيناتور الجمهورى الراحل جون ماكين، والذى كان يناصبه العداء، حتى أنه أوصى بعدم مشاركته فى جنازته قبل وفاته، بينما أطلق ترامب حملة للهجوم عليه بعد وفاته، وذلك بالرغم من انتمائهما لنفس الحزب، فى انعكاس صريح لما يمكننا تسميته بثقافة "الثأر" التى تعتمدها التيارات اليمينية فى التعامل مع خصومهم.
صراع "اليمين".. لوبان تحاول استقطاب الشارع المحافظ فى باريس
فعلى الرغم من المنافسة الانتخابية بين شيراك، والذى كان يمثل حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، والذى تحول اسمه فيما بعد إلى حزب الجمهوريين، ووالد مارين لوبان، ممثل زعيم الجبهة الوطنية، إلا أنهما فى واقع الأمر يمثلان التيار اليمينى فى فرنسا، وبالتالى فإن مواقفهما تبدو متشابهة إلى حد كبير تجاه العديد من القضايا سواء فى الداخل الفرنسى أو الخارج، وإن كان حزب لوبان يبقى الأكثر تشددا من حيث الخطاب خاصة فيما يتعلق بالقضايا المرتبطة بالهجرة، أو الأقليات أو غيرها من القضايا الدولية، إلا أن الصراع الانتخابى دفع شيراك إلى تبنى موقفا حادا تجاه الخطاب الانتخابى للوبان، ساهم إلى حد كبير فى انتصاره واحتفاظه بعرش "الإليزيه" نظرا لشعبيته الطاغية آنذاك.
جاك شيراك يكتسح والد مارين لوبان فى 2002
إلا أنه لا يمكننا النظر إلى المعركة الكلامية بين عائلة شيراك ومارين لوبان، بعيدا عن المشهد السياسى الراهن فى باريس، فى ظل انحسار المنافسة فعليا بين الأحزاب اليمينية، والمتمثلة فى حزب الجمهوريين وحزب الجبهة الوطنية، خاصة مع خفوت نجم الأحزاب الأخرى، سواء اليسارية أو الوسط، مع انحسار شعبيتهم بسبب فشل الرئيس الاشتراكى السابق فرنسوا أولاند، فى تحقيق أى تقدم اقتصادى خلال فترة حكمة، بينما يسير على الدرب نفسه الرئيس الحالى إيمانويل ماكرون، والذى يمثل تيار الوسط، وبالتالى فربما تصبح تصريحات لوبان هى بداية لحملة تهدف إلى استقطاب اليمين الفرنسى فى المرحلة المقبلة، قبل الانتخابات المرتقبة فى 2022، والتى يبقى حزب لوبان هو فرس الرهان، خاصة مع استمرار الغضب فى الشارع تجاه أداء الحكومة الحالية.
على خطى ترامب.. لوبان تعيد إحياء مسلسل "الثأر" الأمريكى
وهنا يمكننا القول بأن المهمة التى تضعها لوبان على عاتقها فى المرحلة المقبلة تتشابه إلى حد كبير مع الرؤية التى سعى الرئيس الأمريكى إلى تحقيقها منذ بزوغ نجمه على الساحة السياسية، والتى قامت فى الأساس على إعادة هيكلة الأيديولوجيات الحاكمة، بحيث تتواءم مع رؤيته الشخصية، وهو ما يبدو واضحا فى موقفه مع ماكين، والذى ظل يطلق عليه سهام الانتقادات اللاذعة حتى بعد وفاته فى محاولة لتقويض إرثه، بينما سعى إلى تهميش مناوئيه الذين يتبنون نفس الأفكار، وعلى رأسهم بول رايان، والذى شغل منصب رئيس مجلس النواب الأمريكى، ومستشار الأمن القومى السابق جون بولتون، والذين يمثلون تيار الصقور فى الحزب الجمهورى.
ترامب وماكين.. الثأر مستمر بعد الموت
وفى المقابل سعى الرئيس الأمريكى لإرساء نهج جديد، يقوم على كسر الأفكار التقليدية، سواء فيما يتعلق بالداخل الأمريكى، أو علاقات أمريكا بالعالم الخارجى، حيث سعى لمواجهة الهجرة عبر بناء جدار عازل، فى خطوة تمثل انقلابا على الإرث الأمريكى، حيث اعتبرها البعض انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، بينما اتجه نحو الانفتاح على خصوم أمريكا الدوليين، وعلى رأسهم كوريا الشمالية فى انقلاب أخر على الأعراف الدبلوماسية الأمريكية، التى اعتادت على مجابهتهم بالأدوات التقليدية، كالعقوبات والحصار الاقتصادى، والتى قد تمتد إلى استخدام القوة العسكرية.
شعبية متنامية.. الفرصة مهيأة أمام لوبان نحو مزيد من السيطرة
يبدو أن لوبان تسعى، فى الوقت الحالى، إلى استلهام التجربة الأمريكية، بحيث يدور اليمين الفرنسى فى المرحلة الحالية فى فلك رؤيتها، خاصة وأن السياسية الفرنسية تحظى بعلاقة خاصة مع الرئيس ترامب، فى ظل العديد من اللقاءات التى يعقدها عددا من مستشاريه والمقربين منه معها بين الحين والأخر، فى إطار محاولاته لدعمها، من أجل خلق أذرع دولية له يمكنها الحفاظ على إرثه لأطول وقت ممكن، بالإضافة إلى استخدامهم فى المستقبل لتحقيق أهدافه.
لوبان مع أحد كبار مستشارى ترامب السابقين ستيف بانون
ولعل النتائج الكبيرة التى حققتها لوبان وحزبها فى انتخابات البرلمان الأوروبى الأخيرة، تمثل بما لا يدع مجالا للشك فرصة كبيرة لاستغلال شعبيتها المتنامية بين الفرنسيين للاستئثار بدعم المحافظين والشعبويين، وهو ما بدا واضحا فى التفافها وراء مظاهرات السترات الصفراء، والتى كانت تحظى بزخم سياسى كبير خاصة فى أسابيعها الأولى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة