أكرم القصاص - علا الشافعي

بعد عام من مقتل الأنبا آبيفانيوس.. كيف استثمر أعداؤه عمله بتدريس التراث العربى المسيحى كحجة ضده؟.. الأسقف المغدور به ترجم مئات المخطوطات عن القبطية واليونانية إلى العربية فاتهموه بالتفريط فى الهوية القبطية

الأربعاء، 31 يوليو 2019 06:00 م
بعد عام من مقتل الأنبا آبيفانيوس.. كيف استثمر أعداؤه عمله بتدريس التراث العربى المسيحى كحجة ضده؟.. الأسقف المغدور به ترجم مئات المخطوطات عن القبطية واليونانية إلى العربية فاتهموه بالتفريط فى الهوية القبطية الأنبا آبيفانيوس
كتبت سارة علام

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم ينتهِ الجدل الذى أثارته قضية مقتل الأنبا آبيفانيوس أسقف ورئيس دير أبو مقار العام الماضى بالحكم على الراهبين أشعياء وفلتاؤس المقارى بالإعدام شنقًا من قبل محكمة الجنايات، بل إن ذكرى وفاته الأولى أعادت للسطح ما أثارته تلك الجريمة من نقاشات وصراعات بين تيارين كنسيين إلا أن التهمة الجديدة التى يعاقب بها الأسقف المغدور به من قبل نشطاء أقباط هى ما وصفوه بجريمة تفريطه فى الهوية القبطية وبيعها للعرب وذلك من خلال كلية اللاهوت الإنجيلية التى كان الأسقف المغدور به يعمل أستاذا بها يدرس للطلاب فى برنامج دبلومة التراث العربى المسيحى.

التهمة التى الصقها الناشط "رامى كامل" عبر صفحته الشخصية على الفيس بوك، جرى تداولها على نطاق واسع عبر صفحات محسوبة على التيار التقليدى على السوشيال ميديا وأثارت جدلا واسعا بين أوساط المهتمين بالشأن القبطى.

تهمة بيع التراث القبطى للعرب والتفريط فيه بدعم من الكنيسة الإنجيلية، تبدو كمحاولة للى عنق الحقيقة بل إنها تخلو من أى منطق، إذ يعمد صاحبها إلى طمس أو إلغاء ما يسمى فى الأكاديميات والجامعات العالمية بالتراث العربى المسيحى وهى تسمية أكاديمية لمجمل العلوم والفنون والآداب والتاريخ والإسهامات التى تركها المسيحيون العرب فى الحضارة العربية، إذ أضاف هؤلاء لتلك الحضارة التى ازدهرت فى شبه الجزيرة العربية ووصلت حتى حدود أسبانيا عبر عصور مختلفة أبرزها العصرين العباسى الأول والثانى.

يرى الأب سمير خليل اليسوعى أحد أهم الباحثين فى هذا المجال، أن التراث العربى المسيحى هو كل ما ألّفه المسيحيون باللغة العربية، سواء كان ذلك موضوعا أصلاً باللغة العربية، أو مترجما إليها من لغات أخرى، فمؤلفات الآباء مثلا التى كُتبت باليونانية أو السريانية أو القبطية، تُرجمت فى العصور الأولى للهجرة إلى اللغة العربية، فهى أصبحت من التراث العربى، وذلك بصرف النظر عن أصل المؤلف أو المترجم، إذ قد يكون المؤلف رومياً أو سريانياً أو قبطياً... فإن جزءاً لا يستهان به من التراث العربى المسيحى القديم قد تُرجم فى المرحلة الأولى من اليونانية أو السريانية أو القبطية إلى العربية. وعندما نقول "عربي" لا نعنى "مسلم" لأن اللغة العربية كانت قبل الإسلام يتكلمها العرب المسيحيون وبها يصلون، وهناك مسلمون لا يتحدثون العربية مثل الأتراك والإيرانيين وغيرهم.

ووفقا لما ذكره اليسوعى بموقع أبونا الذى أطلقه آباء الكنيسة الكاثوليكية، فإن التراث العربى المسيحى مدخل للأرضية المشتركة بين المسيحى العربى والمسلم، فاللغة والتراث والثقافة والتقاليد أمور مشتركة تشجع على الحوار البناء والعيش المشترك الانسان صديق من يعرف وعدو ما يجهل.

يتفق الباحثين على وجود ثلاثة تيارات كان لها تأثير عميق على الإنتاج اللاهوتى للكُتاب المسيحيين العرب بشكل عام والأقباط بشكل خاص:

الأول: هو تيار آباء الكنيسة التقليدي: فمن المعروف أن الأدب العربى المسيحى، نشأ فى أواسط القرن الثامن، ولم يكن الأساس لكتاباتهم سوى متابعة للاهوت الآباء اليونان والسريان والأقباط وأيضاً اللاتين. وهناك بعض نصوص لآباء الكنيسة اليونانية فُقد أصلها ولم تصل إلينا إلا عن طريق ترجمتها إلى اللغة العربية.

الثاني: تيار الفلسفة اليونانية: استفاد علم اللاهوت العربى كثيراً من الفلسفة اليونانية. ليس فقط لأن الباحثين العرب المسيحيين كانوا مهتمين بشكل خاص بدراستها ونقلها وترجمتها، بل أيضاً لأن المسلمين أنفسهم فى القرون الوسطى كانوا من المعجبين بعلم اليونان وبفلسفتهم. أن التحديد والدقة للمصطلحات (مادة، جوهر، طبيعة، شخص، انبثاق الخ)، وأيضاً بعض الأُطر الفكرية (التمييز، المقياس، والجدل) جاءت من التراث الفلسفى اليونانى.

الثالث: علم الكلام الاسلامي: ليست مجازفة التأكيد بأن الأدب العربى المسيحى انتبه واستفاد من طرق تفكير ومصطلحات خاصة بالإسلام ولا سيما المعتزلة والاشعرية. فهناك تأثير متبادل بين علم اللاهوت المسيحى وعلم الكلام الاسلامى.

يضع الأب سمير خليل اليسوعى، أربعة أهداف لأهمية دراسة التراث العربى المسيحي: الهدف الاول ثقافى علمى، يهدف إلى إطلاع المثقفين العرب والمستشرقين على جزء كبير من الإنتاج الفكرى العربى، مازال حتى الآن غامضاً عليهم أو مجهولاً. والهدف الثانى هو دينى، يرمى إلى حمل المسيحيين فى العالم العربى على اكتشاف ينابيع فكرهم الأصيل، علما بأن الكثيرين منهم قد يجنحون إلى تجاهل ذاك التراث العربى المسيحى الذى هو تراثهم. وبذلك نسهم، قدر إمكاننا، فى مساعدة المسيحيين على فتح حوار مع المسلمين، تكون له جذور عميقة فى تراثهم العربى المشترك. والهدف الثالث هو اجتماعى، بهدف إلى تسليط الأضواء على الدور الهام الذى قام به المسيحيون فى نشأة الحضارة والثقافة العربية. وبهذا أيضا نساعد المسيحيين والمسلمين على استيعاب تلك الحقيقة الرانية، وهى كونهم أعضاء فى جسم المجتمع العربى الواحد عينه. أما الهدف الرابع تاريخى، يوضح الدور الذى لعبه هذا التراث المسيحى الخاص فى الحضارة العربية الإسلامية وبالتالى فى الحضارة الإنسانية.

كذلك، فإن التدريس بكلية اللاهوت الإنجيلية يتسق مع أهم المبادئ التى صاغها الأنبا آبيفانيوس فى حياته كتلميذ لمدرسة متى المسكين الرهبانية، وهى المدرسة التى تؤسس لعلاقة تواصل ومحبة مع الكنائس الأخرى والطوائف المختلفة فى الإيمان، وهو الموقف الذى يرفضه المتشددون الراغبون فى إغلاق الكنيسة القبطية على ذاتها وإبعادها عن التواصل مع مصادر العلم اللاهوتى فى الشرق والغرب وهى عزلة تضر الكنيسة أكثر ما تفيدها إذ تحجم دورها وتقصره على رعاياها فى مصر والمهجر دون أن تسهم فى الحركة العلمية والبحثية فى اللاهوت وعلوم الكتاب المقدس التى تجرى يوميا فى جامعات العالم وكنائسه، تلك العزلة التى فرضها المتشددون أوقفت حركة الابتعاث للخارج وجعلت من حملة المؤهلات فوق العليا مثل الماجستير والدكتوراة من الأقباط يتحسسون رقابهم خشية اتهامهم بإفساد العقيدة واستقاء الأفكار الدينية من مصادر غربية.

لم يقتصر دور الأنبا آبيفانيوس فى حركة التراث العربى المسيحى على التدريس بكلية اللاهوت الإنجيلية فى برنامج الشراكة مع مركز التراث القبطى بمكتبة الإسكندرية بل امتد ليشمل إسهامه العلمى من ترجمات وكتب لا تنتهى بوفاته مثل كتاب سفر التكوين – عربى – الترجمة السبعينية بالمقارنة مع النص العبرى والترجمة القبطية، وكتابه خولاجى الدير الأبيض – ترجمة عن اللغة القبطية ودراسة، وكتاب القداس الباسيلى – النص اليونانى مع الترجمة العربية، وكتاب القداس الغريغورى – النص اليونانى مع الترجمة العربية، وكتاب قداس القديس مرقس – القداس الكيرلس، وكتاب بستان الرهبان – إعداد الأنبا آبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار، إذ يعتبر الكتاب الأخير المرجع الأهم للرهبنة القبطية ومن كتبها الأمهات.

وفرت كتابات الأنبا آبيفانيوس التى نقلها من اللغتين القبطية واليونانية إلى العربية رافدا جديدا للباحثين فى مجال الدراسات المسيحية والعربية، يمكنهم الاستناد له إذ لعبت تلك الكتابات دور الوسيط بين الثقافتين القبطية واليونانية من ناحية والعربية من ناحية أخرى، ليصبح الأسقف المغدور به وكتاباته جسرا يعبر به من سيأتى بعده من التلاميذ بينما يطيب لأعدائه اتهامه ببيع التراث القبطى الذى سعى طوال حياته لتوثيقه والمحافظة عليه والإضافة له من علمه الغزير، بينما تشير تلك الحروب المستمرة إلى أن تأثير الرجل لم يتوقف بوفاته فمازالت كتابته تثير الجدل وتفتح أبوابا للعلم وترد نومته الهادئة فى قبره.

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة