حازم حسين

أضيئوا قبر محمد أبو الوفا

الأربعاء، 03 يوليو 2019 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الموهبة كالجريمة، يصعب إخفاؤها أو حصار روائحها. فى المقولة شطرٌ يُطمئن الموهوبين أنهم قد يُصادفون فُرصًا حقيقية، وشطرٌ يُبشِّرهم باحتمال الخسارة، وأن تنتهى أحلامهم وينطوى ذكرهم، كما تُغلَق القضايا على آلاف الجرائم والضحايا يوميًّا!
 
مات محمد أبوالوفا، أحد عُتاة الموهوبين وأشدّهم إبداعًا وعنفوانًا. المُؤسف أن كلّ من يقرأون الآن يعرفونه، والأكثر أسفًا أنّ حصّةً كبيرة لن يستثيرهم الاسم أو يستدعى صورةً أو مشهدًا لذواكرهم، فهو واحدٌ من المظاليم الذين تحضر وجوههم وتغيب أسماؤهم، ولا يحصدون ما يستحقّون؛ لأنهم أتوا من الأبواب الخلفية، وفرضوا أنفسهم بالموهبة فقط!
 
عرفته قبل أكثر من عشرين سنة. كان نجمًا فى فرقة الفيوم المسرحية، استمرّ سنوات يُمارس هوايته بشغفٍ، مُنتظرًا العرض السنوى، بينما يُنفق باقى الشهور على التدريب والتجارب الصغيرة بين الرفاق، ثمّ يُلقى جسده مساء كلّ يومٍ على أحد كراسى مقهى «القللى» المُتاخم لقصر الثقافة.
 
محمد عبدالحليم أبوالوفا، لاعب طاولة مُحترف، لاعبتُه ولاعبه غيرى، وكان أكثرنا فوزًا، ولمّا كنّا نحسده على الحظّ المُتراقص بين كفّيه وحول كلّ رَمية «زَهر»، كان يرمقنا بنظرةٍ، نصفها ابتسام ونصفها عتاب، كأنّه يلومنا على استكثار أن يكسب فى اللعب، بينما لم تمنحه الحياة فرصة جادّةً.
 
لم أره ساخطًا قطّ، ذلك الوجه حادّ الملامح، الذى تنبسط أساريره كلَّما فاز أو خسر أو ضَحِك أو بكى، لتكشف عن طفل ناعم الروح، خلف التقاسيم المنحوتة كضربات «إزميلٍ» فى جرانيت أسمر. كان هادئًا فى جنونٍ، وقورًا فى مرحٍ، راضيًا كأنّه حاز الدنيا، أو ينتظر موعدًا يُوقن أنه آتٍ، وأنّ العالم لو اجتمع عليه فلن يُؤخِّر اللقاء أو يسلبه الرضا.
 
أذكر فرصته الأولى، وقع الاختيار عليه فى تجارب الأداء لفيلم «حليم». كان مُبتهجًا كأنه التقى حبيبةَ العمر فى آخر أيامه، لكن تراجعت صحّة أحمد زكى وتعطَّل التصوير، وبدا «أبوالوفا» مرعوبًا على حبيبته، وللمرة الأولى يخسر فى الطاولة، يخسر من الجميع، ونُفتّش عبثًا عن ابتسامته؛ حتى لو كانت عتابًا خالصًا! ولأن الدنيا اعتادت أن تُخرج له لسانها، أجّلت فرصته الأولى سنتين، ليُطلّ على الجمهور لأول مرّة بفُرصته الثانية. كان شادى الفخرانى مساعد مُخرج فى الفيلم، ورآه غُولاً مُرعبًا فى دور الأبنودى، فاقترحه على يحيى الفخرانى، ليظهر فى مسلسل «المرسى والبحّار» 2005.
 
انطلق المارد من القُمقم الذى حبسه سنوات، وخلال أقل من خمس عشرة سنة شارك فى 58 مُسلسلاً و15 فيلمًا، وأصبح قاسمًا للنجاح مع نجوم الصف الأول، ورُبّما كان أكثرهم موهبةً وإبداعًا، لكن المؤكَّد أنه أقلّهم ذيوعًا وربحًا، وظلّ يكسب فى الطاولة، كأنّه يأخذ حظّه من «الزهر»، تعويضًا عن قلة الحظِّ فى الحياة، رغم الإجادة والحضور المُعتّق الذى زادته السنوات جلالاً ومهابة.
 
بجسدٍ ضخم، وقامة فارعةٍ، وصوتٍ أجشّ، ووجهٍ لا يخلو من صرامة، بدأ فى عقده الخامس ما كان يجب أن يبدأ قبل عقدين. سعى كما يسعى الهُواة، وتقافز كما يقفز الشباب، حتى حجز مكانًا لا ينافسه فيه أحدٌ، واتّخذه قاعدة انطلاق على ما فيه من ضيقٍ وشظف، قابضًا الموهبة بكفٍّ، وحاملاً الأمل فى الأخرى، وبسذاجة الريفيّين كان يحسب أن ما يُحارب به كافٍ للانتصار على الحظِّ وقوانين الساحة!
 
لم يكن يتطلَّع بالتأكيد للبطولة والملايين. صديقى وأجزم أنه كان عاقلاً، ويعرف حدود رضا الدنيا عنه، لكنّ ما ارتضاه كان آخرون يُنازعونه فيه، فتقدَّم لعضوية نقابة المهن التمثيلية، ورُفض فى ولايتى أشرف عبدالغفور وأشرف زكى. أكثر من 70 عملاً لم يجن منها ما جناهُ نجمٌ عن عملٍ واحد، ولم تمنحه ما يليق بفنانٍ كبير وموهبة عظيمة، فعُومِل فى مرضه كما يُعامَل الآتون من الأبواب الخلفية، والمحبوسون فى الهامش، لا لشىء إلّا كى يظلّ النجوم نجومًا، ولا تهتزّ القاعدة ويختلّ الميزان!
 
رحل صديقى صباح السبت، بعد 3 شهور من المرض والإهمال، وفى حلقِه غُصَّة التجاهل، وفى روحه مرارةُ الإحساس بخيبة الأمل، لأن أصدقاءه النجوم، ممّن يلمعون فى كل محفلٍ وسُرادق فاخرٍ، غابوا عن جنازته، والفنّ الذى أحبَّه لم يُبادله الإخلاص، فتواطأ مع الدنيا حتى سلبه أحلامه، وسحق عظامه، ومضغ لحمَه بأسنانٍ صدئةٍ باردة. رحل مكسورًا ليقينه أن الضوء الشحيح الذى انتزعه بالموهبة والمُثابرة، لن يُرافقه إلى الآخرة، ولن يُضىء قبره، الذى سيظلّ مُظلمًا بعدما يُلملم زملاؤه أضواءهم فى زفّة بكاءٍ افتراضيّة، تصدّروا مشهدها، حتى فى موته يستكثرون عليه البطولة!
 
لن أكون حالمًا وأطلب إطلاق جائزة أو مهرجان باسمه، رحم الله امرأً عرف قَدر أحبّته، وأنّهم من الهامش أتوا وإليه ماضون. لكن هل تتدخَّل الوزيرة إيناس عبدالدايم لتُطلق اسمه على مهرجان قصور الثقافة الذى أفنى عمره فيه؟! وهل يُكرّمه نقيب المُمثّلين بتسمية نادى النقابة أو إحدى قاعاته باسمه؟ وهل يتذكّره الفنانون والمُنتجون الذين عملوا معه، فيدعموا أسرته ويمنحوا الهواة فُرصًا أكبر كصدقة على روحه وإبداعه؟.. هل لنا أن نطمح فى أن يبقى ولا نقتله مرَّتين: بالظُلم والتجاهل؟! هل نُراجع أجور مظاليم الفنّ ومعاشاتهم وتأمينهم الصحىّ؟ وهل نُعيد التوازن للسوق بدلاً من آحادٍ يستنزفون الملايين وآلاف ينتظرون الفتات؟.. تلك الصيغة تختزل ساحةً عريضة فى عدّة أسماء، وتضع المُنطفئين ولائم رخيصة على طاولات النجوم، وكُلّما بادرنا بتصحيحها كان ذلك انتصارًا للفنّ والإنسانية.
 
رحل الطيّب، ضخم الجثّة رقيق القلب، وسينطفئ اسمه كما يليق بالموهوبين الغلابة، لأنّ الشهرة لها أناسٌ تُحبّهم ويُحبّونها، لكنَّنى وبقيّة أصدقائه سنظلّ جمهوره الذى لا تُبهره الإضاءة، ويعرف الزهيد من الثمين، وسنتحلَّق حول «الطاولة» فى مقهاه المُفضّل، مُنتظرين أن نخسر من جديد، دون أن نعتبر الحظَّ العابرَ تُهمةً، أو يُعاقبنا «أبوالوفا» بنظرة لومٍ، ليس لأنّه لم يعد هنا، وإنّما لأنّه لم يكن محظوظًا فعلاً، وبَرهَن بالدليل أنّنا كُنّا نظلمه، بينما أخذت الدنيا كلَّ ما لديه، ولم تُعطه سوى صندوقٍ خشبىّ، رمى عليه «الزَّهر» قبل سنوات، وحُمِل فيه اليوم إلى مثواه الأخير!
 






مشاركة



الموضوعات المتعلقة


لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة