أكرم القصاص - علا الشافعي

فصل من رواية "قلبى ومفتاحه" لـ أدهم العبودى

الأربعاء، 10 يوليو 2019 09:30 م
فصل من رواية "قلبى ومفتاحه" لـ أدهم العبودى الكاتب الروائى أدهم العبودى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عظيمة هى الأسرار العائمة فى سماء هذا الوادى يا بني، والأعظم؛ تلك الأسرار المدفونة فى جوفه، الخطايا تبدأ بفكرة، والأفكار خطايا، والخطايا بديمومة الزّمن؛ تدوم.
لستُ أعرف كيف يُمكن أن أبدأ حكايتي؟ أخشى أن أؤلمك، إنّ الحكاية مليئة بالفراغات التى ينبغى عليك أن تملأها، إمّا بخيالك وإمّا بالتكهّن، وإمّا باقتفاء أثر الشّائعات القديمة، الحكاية نفسها تقطّعت فى أكثر من موضعٍ، وكلّما تقطّعت اتّصلت فى تصاعدٍ جديد، تصاعدٍ مأساوي، إنّها حكاية حلزونية، لا تبدأ إلّا حين يبدو أنّها انتهت، إنّما كلّ الذى أعرفه أنّى لم أرحل وأتركك، بل تركتنى معك. 
فى عشيرتي، خلف كلّ صخرة، كلّ تبّة، كلّ كثيب، كانتْ بنتٌ تموت يا "صالح"، إنّ وادينا تكسوه الدّماء، كما تكسوه الثّلوج، إنّ الواحات المزهوّة باخضرارها، إنّما تسقيها الدّماء يا ولدي، وطالما تساءلتُ: بأى ذنبٍ يُذبحن فى ظلامٍ وقد خُلقن من نور؟ 
 (2)
 
فى زمن البادية الضّبابي، انتشر الخبر بين العشائر، ابنة شيخ قبيلة "الأعراف" طوّحها الأولاد بين أعضائهم عند البئر الكبيرة، ... لم أكن أذكر عددهم، قيل إنّهم عشرة أولاد، لعلّهم أكثر، لم أكن أدري! فى طريق عودتى كانت ملابسى لم تزل مبتلّة، وبدا كأنّى استفقتُ قليلًا من غيبةٍ لم تطُل. 
بعد أن وقعت الواقعة، حاولت أن أفكّر فى تبعات الجنوح، ولم أستطع وضع تصوّر ملائم للعاقبة، أدركتُ أنّى سأتوسّد القبر هذه اللّيلة، وبدا الأمر مقبولًا تمامًا، أقلّه سأغادر حيث غادر الأولون الأبرياء، أعرف أنّ فى الجنّة يسكن غرباء الأرض، والمعذّبون، ومن لهم فى رقاب النّاس ذنبٌ لا يموت، الشّرفاء تُهلكهم القيود يا ولدي، ألم تكن هذه القيود برمّتها سببًا فى هلاك كلّ طموحاتي؟! 
الطّريق إلى الوادى لم تزل طويلة، وبعد منتصفها، بدت تخرج لى من بين غابات "الزّيتون"، ومن قلب المستنقع المهجور عند البئر الكبيرة، أرواح الهالكات اللواتى نزفهنّ الجنوح، وأودت بهنّ البراءة، أرواح الصّغار الذين انجرفوا وراء السّاحر.
اللّيلة سوف أصبح واحدة منكنّ، سوف أفتح القبور، ألملم عظامكنّ وأطبّب بها ضمير هذا العالم الجاحد، إنّى هالكة مثلكنّ، لكن لا بأس إن كان هذا مصيري، فى النهاية طوبى لمن سكنت القبور منكنّ.
عندما عُدت، كان الخبر قد زُفّ، وكان اللّيل قد ساد الأجواء، ونفرٌ من عشيرتنا كانوا جالسين أمام البيت، إنّ طقس الفضيحة يلمّ القاصى والدّاني، ليس من ضيقة أشدّ من تلك كى يؤازر أفراد العشيرة بعضهم البعض، وفى داخل البيت كان الشّيخ "معروف" جالسًا قبالة أبى ممسكًا أذنه يتلوّى، وفى أحد الأركان تجلس أمّى وطرحتها السّوداء تغطّى وجهها، وكان الشّيخ قد قصّ لرجال العشيرة ما جرى منّي، وكيف فررت من درس تحفيظ القرآن بعد أن قضمت أذنه، وفق منظوره بالطّبع. 
ظلّوا يتجادلون:
- عاقبة السّرح.
- سعت للإثم.
- سكنها "إبليس".
- إنّها طفلة قاصر، ولا عاقبة على قاصر.
لكن قال أبى فى حزم، وكان لا يكاد يسيطر على أنفاسه:
- الطّهارة واجبة، من الذّنب، ومن الطّفولة.
فى صبيحة اليوم التّالى حضر أحد الشّيوخ الحكماء إلى "خيمة الطّهور".
وضع لى مشروبًا مقطّر فيه زيتٌ داخل قدر من فخّار، أجبرونى على شربه، كان طعمه مرًّا، وكأنّه أسكرني، إنّما قال الشّيخ:
- اتركوها لحلول المساء فى غرفة، لا يدخل عليها أحد، ولا تُفتح فى الغرفة نافذة، وأطلقوا البخور، وسأطهّرها بعد أن تنتهى النّساء من بقيّة البنات.
ظللت فى الغرفة راقدة دون حيلة، كان جسمى مثخنًا بالجروح والكدمات وتكسرّت بعض عظامي، الذى آلمنى أكثر كان تشاحنهم على أنسب الطُرق لإنزال عقوبة تليق بالجُرم، كانوا قد أجروا الختان على بقيّة الإناث بعد الظّهيرة، وعلّقوا راية بيضاء على باب الخيمة، واحتفلوا، وتركونى حيث حالتى شاذّة، للمرّة الأولى استدعوا شيخًا حكيمًا ليطهّر بنتًا، خالفوا عادتهم وتركوا رجلًا ينبش فى أحشائى عن الذّنب، تُرى هل هكذا يعاقبونني؟ 
بعد ساعات توسّد اللّيل فِراش السّماء، أزاح الشّيخ الحكيم باب الغرفة بيده، وأغلقه من خلفه، دخل وحده.
الشّيخ يقطع فى يده جدائل من قماش، ينطبق صدرى ويقبض التفكير على ذهني، لم أكن أعرف ماهية الوسائل التى سيمارسها على كى يطهّرني! يسكن جسدى تحت لمسات يده، وعيناه تنفذان داخل عينى كضوء مسلّط، ورائحة البخور تسكن جو الغرفة. 
أهمس ببطء:
- خائفة منك يا شيخ. 
لكنّه يقول: 
- لا أحد يخاف من الشّيخ. 
مقاومتى تخور، أكاد أختنق، أشيح بوجهى وأفرد له ساقى تبعًا لحركة ساعده، وكان يتلو ويهمهم ولا أفهم شيئًا، وكلّما تخشّبت ساقى فردهما، وكانت الغرفة مظلمة، ولا أستوضح ملامحه، غير أنّ أنفاسه كانت حارّة، ثم دسّ إصبعًا بداخلي، فحاولت دفعه وكدت أنفجر فى الصراخ، لولا أنّه كبّلنى بعزيمة المشايخ، وكتم بكفّه فمي. 
تحطّبت ساقى أكثر فأكثر، دون جدوى، شعرت بدماء ساخنة تهبط من بين ساقيّ، ولا شيء آخر سوى الألم، وظلّ هو يتلو، وبينما يتلو، كان إصبعٌ آخر يغوص فى داخلي، فثالث، وكان الألم لا يُحتمل، وبُحّ صوتى المكتوم، لكنّه صفعنى على وجهي، وأخذ يهمهم: 
- اتركها. 
وأخذ يقول لي: 
- شيطانك رغبته فيكِ بالغة..!
استطعت أن ألمح بياض عينيه اللتين غابتا، ومضت أصابعه تطلع وتدخل. 
غريبة هذه الطقوس التى يباشرها الشّيوخ! كنتُ أنزف، ولم يحفل، وبدا وكأنّ نزيفًا آخر يهبط مع الدّم، إمّا نزيف رُوحى التى يُستولى عليها الآن، وإمّا سائلٌ لا أعرف إن كان يهبط منّى أو من ذاكرتي. 
لكن الشّيخ انسلّ واقفًا أمامى كشبح، ثم رقد فوقي، كانت أنفاسه أنفاس صبى يلهو، غير أنّى تكالبت على نفسي، وعلى جروحي، ولم تشفع نظراتي، ظلّ يكتم فمي، ثمّ أحسست بعمود من جمر اقتحم جسدي، تقلّص ظهري، وكلّما دفعته دخل أكثر، وكلّما حاولت أصيح كتم فمي، ودخل فى كأنّه سيفٌ مسنون، عضضت على شفتيّ، وكززتُ على أسناني، وكان الألم وكانت معه اللّذة الفُجائية، وكلبشت فى كمّ عباءته، والجدران المتواطئة تهتزّ، والضّباب ينتشر فى عمق الظّلام، والأرض ترتجّ، وجسدى يرتجّ، والطّفلة تموت، لا يدفنوها فى مستنقع، تصبح الطّفلة مستنقعًا يمرح فيه الشّياطين وتعبث فيه غواية البشر، أجل يا ولدي، قد استهلك الجميع رغباتهم من خلالي، فهل على الجميع إثمٌ؟!
تنهّد الشّيخ، وفى لمح بصر، جزّ فرجى بنصلٍ حادّ، ثم فى لمح بصرٍ آخر، كوى جُرحي، وبنت العاشرة هى بنت عشرة أولاد، بنت أسئلة لا حصر لها، بنت ظلام وضباب وموت. 
قال لى "النسّابة"؛ الذى يحفظ أنساب قبيلتنا، وربّما أنساب الأرض، إنّ نسبى لـ"إبليس"، وهو نسبٌ ملعون، كان ظنّى -وقتذاك- أنّ نسبى مُشتبه عليه.
منذ خروج الشّيخ من الغرفة بدأت الحكاية يا "صالح"، لم تبدأ من عند البئر كما توهّمت، الحكايات كلّها، بدأت، ولم تنتهِ. 
وجُرحى ظلّ ينزف طول العمر...!
عندما خرج الشّيخ الحكيم من الغرفة، كانت الأقمشة فى يدِه مليئة بالدّم، هل يُمكن أن تشرح البنت الحائرة كيف مورس عليها طقسٌ غير مفهوم؟! هل يُمكن أن ينصت أحدٌ؟! لكن لا بأس، هم يسمعون الشّيخ أكثر، بل ويقبّلون يده العابثة، يده الآثمة.
قال لهم:
- أخرجت "إبليس" من ابنتكم، لكن خرج وفاض معه كلّ الدّم.
ولمّا سرى بين العشائر والقبائل أنّ "إبليس" تمكّن من بنت "الأعراف" وبثّ فى رأسها الهوس والجنون، بدا أبى وكأنّه قد انكسر، وكان طبيعيًا أن يحتجزنى فى البيت، بين جدران متواطئة، وبات يتجاهلني، بل بات يخشى لمساتي، كأنّى ممسوسة. 
أظنّه كان يعتقد أنّ الشّيطان لم يزل يسكنني.
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة