د. أحمد الصياد

السترات الصفراء.. الأسباب والدلالات

الإثنين، 18 مارس 2019 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عام 2008 دخل حيز التنفيذ قانون فرنسي يُلزم جميع قائدي السيارات بحمل سترات تميزهم وتُظهرهم لو خرجوا عند الضرورة عن الطريق الطبيعي، فكانت السترات الصفراء، عاكِسة الضوء، التي يرتديها المحتجون في فرنسا في تعبير بليغ عن رغبتهم في "رؤيتهم" من قِبل السلطة التنفيذية، الرئيس والحكومة. بمعنى التعرف علي حقيقة ظروفهم وما يعانونه من أوضاع معيشية، لم يكن مناسباً معها قرار زيادة الضرائب علي الوقود.

   وكانت الاحتجاجات قد بدأت في 17 نوفمبر من العام الماضي 2018، بمشاركة نحو 280 ألف فرنسي في العاصمة باريس وعدة مدن وبلديات فرنسية، يحتجون علي زيادة قدرها 30 سنتاً لكل جالون، وهي زيادة بسيطة أثارت التساؤلات حول حقيقة الاحتجاجات وأسبابها غير المعلنة.

  وكانت التوقعات تشير إلي قدرة الرئيس الجديد، الشاب القوي "إيمانويل ماكرون" علي إعادة الشباب لفرنسا. خاصة وقد أتي إلي الحكم متزعماً حركة "إلي الأمام"، وعمره 39 سنة عندما فاز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في مايو 2017، كأصغر من سكن قصر الإليزية منذ قيام الجمهورية الفرنسية قبل 170 عاماً، متفوقاً علي منافسته اليمينية المتطرفة "ماري لوبان" بنسبة كبيرة تجاوزت 65%، وهو أيضاً من تحدى الجميع والأعراف وتزوج معلمته التي تكبره بعشرات السنوات.!

   والواقع أن الاحتجاجات الفرنسية تأتي لانفصال ماكرون عن قاعدته الشعبية. انفصال تمثلت نتائجه السريعة في غضب أصاب الفرنسيين جراء سياسات ماكرون المتعلقة بإصلاح قانون العمل، والسكك الحديدية، ونظام الضرائب بشكل عام، بشكل شعروا أنه يُحابي الطبقات الغنية علي حساب عامة الشعب.

   يؤكد ذلك أن شعبية ماكرون في هبوط مستمر منذ بداية 2018 وفق استطلاعات عديدة للرأي أجرتها مؤسسات موثوق بها، وذلك قبل زيادة ضرائب الوقود بأشهر عديدة؛ كما أعلنت صحيفة تليجراف في مطلع ديسمبر 2018 أن 72% ممن شملهم استطلاع أجرته، يؤيدون احتجاجات السترات الصفراء، علي ما بها من عنف. خاصة بين الشباب وموظفي الحكومة والطبقات المتوسطة والفقيرة عموماً.

  والواقع أن ماكرون، قد اتهم في بدايات عهده بالانحياز إلي طبقة الأغنياء، حتى أطلقوا عليه "رئيس الأغنياء". وهذه نقطة فارقة في حكم أي نظام ينفصل عن قاعدته الشعبية الرئيسة. إذ لا يذكر التاريخ أن تهميشاً شعرت به طبقات بعينها من الشعب إلا وأثار أزمات مجتمعية حقيقية، تصل إلي حد النزاعات المسلحة، وربما الانفصال، كما شهدنا في العديد من التجارب الدولية، ومثالها الأبرز انفصال الجنوب السوداني لشعور أهله بالتهميش من جانب الشمال السوداني مقر النظام الحاكم، رغم الاعتماد علي ثروات النفط الموجودة في الجنوب.

   وقد أظهرت احتجاجات السترات الصفراء أيضاً أن الإصلاحات الاقتصادية ليست حكراً علي الدول النامية وحدها، دون المتقدمة. "فرنسا في المرتبة السادسة عالمياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي، لا يسبقها إلا الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة علي الترتيب.". ذلك أن الإصلاح ثقافة مستمرة لا ينبغي أن تتوقف بهدف مواكبة كل جديد، وحتى لا تتراكم المشكلات وتخرج عن السيطرة، وتستلزم إصلاحات صعبة. وهي حالة مرت بها مصر، فلو أن الأنظمة التي توالت علي حكم مصر منذ ثورة يوليو 1952 قد انتهجت سُبلاً منطقية وموضوعية، لم واجه الرئيس السيسي ظروفاً وضعت مصر في خانة "شبه الدولة" بتعبيره الذي أعلنه أمام الرأي العام، ولما أضطر الرجل إلي الإنفاق من رصيده الشعبي الكبير لمواصلة الإصلاحات لما فيها من مصلحة وطنية لا يمكن تأجيلها أكثر من ذلك.

   وهنا نصل إلي دلالة أخرى أهداها أصحاب السترات الصفراء لمن يعتبر من الدول الراغبة في الإصلاح. وهي ضرورة شرح الحقائق بوضوح للشعب، وبكل مصداقية، ضماناً لتأييد شعبي؛ فذلك أمر لازم ولا بديل عنه. وهو ما حدث بالفعل في الحالة المصرية رغم صعوبتها. فكثيراً ما سمع الرأي العام من الرئيس السيسي مباشرة حجم التحديات والمخاطر المحيطة بمصر. بل ودائماً ما كان الرجل يُطالب الوزراء والقيادات بشرح الحقائق للشعب ودون مبالغة أو تهوين.

   كذلك فمن دروس التاريخ نستقي أن استجابة النظام لمطالب المحتجين لا ينبغي أن تتأخر؛ ذلك أن المطالب الشعبية دائماً متصاعدة، وفي تزايد مستمر. أما ماكرون فقد أعلن أولاً عدم تراجعه، وعندما تصاعدت الاحتجاجات قدم ما أسماه البعض بتنازلات. ورغم أن هذه "التنازلات" وضعت فرنسا في مواجهة مع الاتحاد الأوروبي، لأنها أدت إلي تزايد عجز الموازنة الفرنسية إلي ما فوق نسبة الـ 3% المسموح بها داخل الاتحاد الأوروبي. إلا أن الاحتجاجات استمرت، وزادت حدتها السبت الأخير 16 مارس 2019.

   حكم الشعوب بات صعباً، وفن لا يمكن أن تغيب عنه المصداقية والإصرار، والتفاف الشعب حول قائده لا يُعد ترفاً يمكن الاستغناء عنه أبداً. وإلي حديث آخر قريب بإذن الله.

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة