معضلة الهوية.. كيف أصبحت أكبر التحديات التى تواجهها أوروبا؟.. "أباء الوحدة" تجاهلوا تحديد مرجعية للاتحاد الأوروبى فى الدستور الموحد منذ البداية.. و"العودة للجذور" تيار جديد يفرض نفسه بين الدعاة الجدد للوحدة

الأربعاء، 13 مارس 2019 01:00 ص
معضلة الهوية.. كيف أصبحت أكبر التحديات التى تواجهها أوروبا؟.. "أباء الوحدة" تجاهلوا تحديد مرجعية للاتحاد الأوروبى فى الدستور الموحد منذ البداية.. و"العودة للجذور" تيار جديد يفرض نفسه بين الدعاة الجدد للوحدة معاهدة ماستريخت
تحليل يكتبه - بيشوى رمزى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

"الوحدة الأوروبية".. حلم راود "أباء" أوروبا الأوائل، منذ بداية الخميسنات من القرن الماضى، عبر تدشين ما يمسى بـ"المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ"، والتى تأسست فى عام 1951، حيث تكونت من 6 دول فقط، ليتحول الحلم إلى حقيقة بعدها بأكثر من 40 عاما، عندما وقع قادة القارة العجوز معاهدة "ماستريخت" فى عام 1992، والتى تأسس على إثرها الاتحاد الأوروبى، ليصبح كيانا قائما بالفعل، انكسرت على أعتابه الكثير من القيود المتعارف عليها، فى الأعراف الدولية، وعلى رأسها الحدود والعملة، وحتى الهوية القومية التى تتميز بها كل دولة على حدة، لتذوب أوروبا كلها خلف الكيان الجديد، الذى بدا عملاقا يمكنه منافسة القوى الدولية الرئيسية على قمة المشهد الدولى، سواء سياسيا أو اقتصاديا.

وبين "حلم" الوحدة، وحقيقة الاتحاد، هكذا تعانى أوروبا من أزمة الهوية، ارتبطت إلى حد كبير بالظروف الداخلية فى القارة العجوز، تجلت بوضوح فى بزوغ نجم التيارات القومية فى مختلف العواصم الأوروبية، بالتزامن مع العديد من المتغيرات الدولية، وعلى رأسها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى "بريكست"، وكذلك صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ذو التوجهات اليمينية المحافظة، إلى البيت الأبيض فى عام 2017، خاصة وأنه جاهر بمناهضته لأوروبا الموحدة، لتضع جميعها الكيان الأوروبى المشترك فى مهب الريح، فى ظل مخاوف كبيرة من انهياره فى المستقبل القريب.

بين الداخل والخارج.. الوحدة الأوروبية ارتبطت بمتغيرات المشهد الدولى

ولعل ارتباط مستقبل "الوحدة الأوروبية"، بالمتغيرات الداخلية والدولية، ليس بالأمر الجديد، حيث ارتبط الحلم منذ بدايته، بحالة الركود الاقتصادى فى بلدان أوروبا الرئيسية بالداخل، فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى تغير موازين القوى الدولية، مع صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، ليتقاسما مع عرش النظام الدولى فى ذلك الوقت، وبالتالى كان الجانب الاقتصادى المهيمن على خيال الأباء المؤسسين، بحيث تساهم الوحدة المرجوة فى تحقيق تنمية اقتصادية متزامنة لدول القارة، بالإضافة إلى خلق مصالح مشتركة يمكن من خلالها إذابة الإرث الصراعى للحرب الدامية، التى كانت تتويجا لعقود من الاستقطاب داخل المشهد الأوروبى.

جانب من معاهدة ماستريخت التى وقعت عام 1992
جانب من معاهدة ماستريخت التى وقعت عام 1992

بينما ارتبطت الحقيقة، والتى تجسدت فى كيان الاتحاد الأوروبى، كذلك بالقوة الاقتصادية التى تحققت بالفعل فى دول القارة بعد أربعة عقود، تدرجت فيها الوحدة الأوروبية، حتى تجاوزت الجانب الاقتصادى، لتشمل أبعاد أخرى أكثر شمولا، سواء سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا، بالإضافة إلى ظهور معطيات دولية جديدة، حيث تزامن التوقيع على معاهدة ماستريخت فى عام 1992، مع نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتى، واستئثار الولايات المتحدة بقمة المشهد الدولى، فى ظل نظام جديد أحادى الجانب.

معضلة الهوية.. أكبر المعضلات التى تجاهلها دعاة الوحدة

وهنا أصبح الرهان الأوروبى هو التحول نحو الصعود إلى قمة النظام الدولى، عبر الاتحاد الوليد، من خلال التحالف مع الولايات المتحدة، وذلك لملء الفراغ الناجم عن سقوط الاتحاد السوفيتى، خاصة وأنه كان هناك شعورا متناميا لدى دعاة الوحدة الأوروبية بالقوة الاقتصادية التى صاروا يتمتعون بها، بالإضافة إلى ثقتهم فى الدعم الأمريكى لهم، فى ظل الكثير من المشتركات بين دول المعسكر الغربى، وهى المؤهلات التى توارت خلفها أكبر المعضلات التى قد تقوض الكيان، وهى "معضلة الهوية"، والتى تجلت فى العديد من الخلافات التى كانت تثور بين الحين والأخر بين دول الاتحاد الأوروبى، إلا أنه كان يمكن تجاوزها لسنوات طويلة، بسبب دعم الإدارات الأمريكية المتعاقبة لأوروبا الموحدة من جانب، بالإضافة إلى غياب المنافسة السياسية داخل دول القارة للتيار الليبرالى الحاكم فيها من جانب أخر.

بريكست ساهم فى إضعاف الاتحاد الأوروبى
بريكست ساهم فى إضعاف الاتحاد الأوروبى

ولعل المفارقة أن الخلاف الأول على "هوية" أوروبا الموحدة، قد ثار لأول مرة على مائدة "ماستريخت"، والتى ولد من رحمها الاتحاد الأوروبى، حيث أثارت بعد الدول ذات المرجعية الكاثوليكية، وعلى رأسها إيطاليا وبولندا، مطالب من شأنها الإشارة إلى الإرث المسيحى فى الدستور الأوروبى الموحد، كمرجعية للكيان الوليد، وربما كبديل عن الهوية الوطنية لكل دولة، إلا أن مطالبهم قوبلت بالرفض من غالبية الدول الأخرى، والتى كان يحكمها التيارات الليبرالية، حيث أكدت جميعها على علمانية أوروبا، ودستورها الموحد.

على طرفى النقيض.. "العودة للجذور" تيار جديد داخل الاتحاد الأوروبى

إلا أن الظروف الداخلية والمتغيرات الدولية عادت لتطل برأسها من جديد، مع صعود التيارات القومية فى العديد من بلدان أوروبا، والتخلى الأمريكى عن مبدأ الوحدة الأوروبية، منذ صعود ترامب إلى البيت الأبيض، لتضع تحديات صريحة أمام بقاء الكيان الموحد، خاصة مع اقتراب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، لتصبح معضلة "الهوية" فى صدارة تلك التحديات التى تواجه القارة العجوز، فى الوقت الذى يقف فيه دعاة الوحدة الأوروبية فى العصر الحديث على طرفى النقيض، فى مشهد غير مسبوق يعكس حالة التشرذم التى بات عليها الإتحاد الأوروبى بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من انطلاقه، لتثور التساؤلات القديمة من جديد حول ما إذا كانت الحاجة أصبحت ملحة للعودة إلى الهوية الوطنية والقومية أم أن يبقى غياب الهوية هو السمة المميزة للقارة فى ظل التحديات الجديدة.

فلو نظرنا إلى الخطاب السياسى الذى تتبناه كلا من ألمانيا وفرنسا، وهما من أكثر الدول الداعمة للوحدة الأوروبية فى الوقت الراهن، نجد أن هناك خلافات صريحة تثور حول الهوية، ففى الوقت الذى تدعو فيه باريس إلى المزيد من التلاحم الأوروبى على حساب الهوية الوطنية، فى إطار سعى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لقيادة القارة العجوز من بوابة الاتحاد الأوروبى، وهو ما يتجلى فى دعوته لتأسيس جيش أوروبى موحد، نجد أن هناك تراجعا ملحوظا فى الخطاب الأوروبى الذى تتبناه ألمانيا، وهو ما بدا واضحا فى مقال كتبته الزعيمة الجديدة لحزب الاتحاد المسيحى الديمقراطى فى ألمانيا والذى تنتمى إليه المستشارة الحالية أنجيلا ميركل، كرامب كارينباور، والذى أكدت فيه حاجة أوروبا إلى استراتيجية جديدة.

ماكرون متمسك بالتخلى عن الهوية الوطنية لصالح أوروبا وألمانيا تلد تيارا جديدا
ماكرون متمسك بالتخلى عن الهوية الوطنية لصالح أوروبا وألمانيا تلد تيارا جديدا

وتقوم رؤية كارينباور، والتى أعربت عنها قبل أيام فى مقال منشور لها، فى صحيفة فيلت أم زونتاج الألمانية تحت عنوان "الوصول إلى أوروبا بشكل صحيح"، على ضرورة بناء استراتيجية أوروبية جديدة ذات مسارين متوازيين، وهما المسار القومى الوطنى، والمسار القارى الأوروبى الجمعى.

وتقول الخليفة المحتملة لميركل "يمكن تأسيس أوروبا جديدة بدون الدول القومية: إنها توفر شرعية ديمقراطية وهوية. إنها الدول الأعضاء التى تضع وتجمع مصالحها الخاصة على المستوى الأوروبى. وهذا ما يعطى الأوروبيين ثقلهم الدولى."

وهنا تتجلى بوضوح أن هناك تيارا جديدا بات واضحا داخل المعسكر الموالى للاتحاد الأوروبى يمثل الحاجة إلى العودة إلى الهوية الوطنية، يمكننا تسميته بتيار "العودة للجذور"، بعد سنوات من الانجراف الأوروبى نحو الوحدة غير المشروطة داخل الكيان المشترك، وهو الأمر الذى ساهم بصورة كبيرة فى العديد من المشكلات، سواء الاقتصادية أو الأمنية نتيجة الانفتاح غير المحدود.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة