اتصل السفير البريطانى «اللورد كيلرن» بحسين سرى باشا تليفونيًا قبل الساعة التاسعة صباحًا يوم 5 فبراير- مثل هذا اليوم- 1942، ليسأله عن رأيه الشخصى فيما حدث مساء أمس، فى المقابلة مع الملك فاروق.
كان «سرى باشا» هو رئيس الوزراء المستقيل يوم 2 فبراير 1942، وبعدها تفجرت أزمة «حادث 4 فبراير».. «راجع- ذات يوم 2 و3 و4 فبراير».. يؤكد «كيلرن» فى الجزء الثانى من مذكراته، ترجمة «عبدالرءوف أحمد عمرو»، أن سرى أخبره بأنه «وصل إلى القصر الساعة التاسعة والنصف مساء، وصدم من هول مشهد القوات المسلحة البريطانية المشهد»، وأدرك أن هذا الغلام- يقصد الملك فاروق- تأثر كثيرًا بهذه المواجهة الحادة، ويعتقد أن ماحدث كان الدرس الأول لإصلاحه ووضعه على الطريق السليم»، والملك فاروق كان فى أشد الاحتياج إلى مثل هذه الطريقة، ولاشك أنه سعيد بأنه مازال متربعًا على عرشه».
يروى «كيلرن» وقائع لقائه بالملك منذ وصوله إلى القصر فى التاسعة مساءً.. يتحدث بغطرسة المستعمر واستخفافه بالطبقة الحاكمة المصرية.. يتذكر: «فى الطريق مررنا بين صفوف متراصة من القوات المسلحة «البريطانية»، الذين أحاطوا بالطرق المؤدية إلى القصر.. هذا الوصول المهيب كان له تأثير سريع، إذ بينما نحن نصعد سلم القصر إلى الطابق العلوى، كنت أسمع أزيز السيارات المصفحة، وهى تأخذ مواقعها للسيطرة على مداخل ومخارج القصر، ولاشك أن هذه الصورة كانت مناسبة تمامًا لتطور الأحداث بعد قليل».
يضيف كيلرن: «مرت خمسة دقائق تأخير قبل استدعائى إلى مكتب الملك.. لم أكن مستعدًا للانتظار أكثر، الأمر الذى جعلنى اندفع إلى حجرة الملك، وعندما حاول رئيس التشريفات الملكية منع الجنرال «ستون» من الدخول معى، أزحته من طريقى، ودخلنا وسط ضجيج وهياج.. انزعج الملك، واقترح بقاء حسنين باشا، فوافقته، وبدون مقدمات دخلت فى الموضوع».
قال كيلرن للملك: «حددت الساعة السادسة 6 مساء بالإجابة بنعم أولا على رسالتى إليك هذا الصباح، وبدلًا من ذلك فإن «حسنين باشا» حضر لى الساعة السادسة والربع مساء بمعلومات لم أوافق عليها، وأريد إجابة الآن وبدون مراوغة أكثر من هذا، عما إذا كان الرد بالنفى، غير أن الملك سعى إلى المجادلة فى أمور لفظية وردت فى نص الإنذار.. ومن ثم لم أترك له فرصة الحديث قائلًا- مع رفع صوتى بغضب وحدة- بأن الأحداث غاية فى الخطورة، أعتبر ذلك ردًا بالنفى، وإزاء هذا، أرغب طبقًا لمسؤولياتى الاستمرار فى مهمتى، وقرأت عليه بحدة وانفعال، وشعور بالغضب، وجهات نظرى، وسلمته خطاب تنازله عن العرش، قائلًا له: «عليك أن توقع هذا فورًا، وإلا سأضطر لاتخاذ إجراءات أخرى غير سارة أواجهك بها».
يصف «كيلرن» حالة فاروق: «تردد الملك للحظات، وهم أن يوقع على خطاب التنازل عن العرش، لولا أن اعترض حسنين متداخلًا، وبعد لحظة مشوبة بالتوتر، انتبه الملك الذى روعه التهديد تمامًا، وطلب منى بنبرة حزن تخلو من تبجحه السابق إعطائه فرصة أخرى، وأجبته، يجب أن أعرف بشكل قاطع ماذا تقترح ردًا على ما سبق، أجابنى بأنه سيستدعى النحاس فى الحال، وفى حضورى إذا أردت، وأكلفه بتشكيل الوزارة.. أكدت عليه بوضوح بأنه يقصد حكومة النحاس وباختياره هو شخصيًا، وتعمدت التردد لبرهة من الزمن، وشعرت بميل أن أعطيه فرصته الأخيرة»، يضيف كيلرن: «أجاب الملك بانفعال شديد:تقديرا لوضعى ولمصالح الدولة ساستدعى النحاس فورًا..قلت له:إنى موافق، ثم بعد ذلك حاول برغم آلامه النفسية أن يتظاهر بالود والبشاشة، ثم بعد ذلك شكرنى بصفة شخصية لأنى دائمًا أحاول مساعدته».
انتهت المقابلة، ويصف كيلرن مشهد خروجه: «مررنا عبر الممرات المليئة بالضباط الإنجليز، وخدم القصر، المنتشرين مثل الدجاج المفزوع فى القصر، وفى المدخل حيث يوجد مجموعة ضباط فى كامل استعدادهم العسكرى برشاشاتهم الآلية، وأصابعهم على زناد الإطلاق، وبمجرد أن مررنا من أمامهم أديت لهم التحية العسكرية، والشكر، ومررنا وسط كوكبة من المصفحات والدبابات، وهى على أهبة الاستعدادات العسكرية، وكانت فى كامل لياقتها».. يضيف كيلرن: «عدت إلى السفارة، وطلبنى تليفونيًا حسنين باشا سائلًا ما إذا كان فى إمكان القوات المسلحة أن تنسحب من حول القصر حتى لا تعوق حضور النحاس، ووعدته أن أنظر فى هذا الشأن، وبعد نصف ساعة حضر النحاس إلى السفارة بعد أن ذهب إلى القصر لمقابلة الملك، الذى نفذ كل ماوعدنى به، والملك كان كلف النحاس مقابلتى ليعرفنى بكل ماتم.. حقيقة كان هذا الغلام «يقصد فاروق» تحت سيطرتنا تمامًا، وصدم أكبر صدمة فى حياته، فى إجباره على قبول النحاس وأنى آمل بل وأعتقد بأننا سوف نكون قادرين على قصقصة جناحيه وتقليم أظافره، وبهذا نستطيع أن تطويعه لصالحنا فى المستقبل».
كتب كيلرن فى رسالته إلى حكومته يوم 5 فبراير: «لقنت الملك درسًا قاسيًا».. يؤكد أنه تلقى من وزير خارجيته انتونى إيدن التهنئة على مافعله، وقال: «السياسة المصرية تعتمد على ركائز ثلاث هى: «القصر والوفد ونحن، وإذا طغت إحداهما على الأخرى حدث اختلال فى التوازن».