محمد حبوشه

أوبرا عُمان.. منارة ثقافية على شاطئ الخليج

الجمعة، 08 نوفمبر 2019 08:11 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

معروف أن الموسيقى فن زمنى تتم حركاته الموسيقية خلال التعاقب الزمنى بصورة توافقية - بحسب تعريف خبراء الموسيقى - وليس هذا فقط بل إنها قوة مؤثرة فى النفس البشرية تتجاوز سائر الفنون، وقوة خارقة تؤثر فى الطبيعة أو تجعل النفس منقادة تستعين بها على بث روح الإيمان والعقيدة فى الناس، وفى وصية الفيلسوف "أفلاطون" أن الموسيقى تربى النشء، لذا يجب العناية بتقليمها، كما يعدها أيضاً العنصر الأساسى الفعال فى تهذيب العقول الجامدة وإرشادها نحو المفاهيم الواقعية.

ومن أجل تلك الرسالة السامية وغيرها من مفاهيم حول الموسيقى وتأثيرها على الشعوب والأمم، آمنت سلطنة عمان، وعلى رأسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد، بمقولة أفلاطون وغيره من الفلاسفة حول الموسيقى وتأثرها على النفس الإنسانية، ومن هنا كان توجيهه السامى بإنشاء"أوبرا عمان" كأول دار أوبرا فى منطقة الخليج العربى، وفى الجزيرة العربية، حيث أمر ببنائها فى عام 2001م، تم البدء فى الأعمال الإنشائية للمبنى بالفعل فى عام 2007م، وافتتح فى 12 أكتوبر 2011م، لتصبح منارة ثقافية يشار لها بالبنان على شاطئ الخليج، وهى فى الواقع جاءت تتويجًا لمسيرة التنمية الثقافية المستدامة التى تشهدها السلطنة، وانطلاقا من أهمية التنمية الثقافية كإحدى ثمار النهضة الحديثة ودورها الفاعل فى التقارب بين الحضارات.

على مستوى الشكل تعد "دار الأوبرا السلطانية" خطوة كبرى فى تطور التصاميم المعمارية العمانية، حيث تم استثمار العمارة التقليدية العربية الإسلامية والأخذ بعين الاعتبار التناسق والتناغم بين العناصر والتشكيلات المختلفة، كما أن الأوبرا كان ومازال لها دور فى تلبية تطلعات ورغبات كافة أذواق روادها، إضافة إلى الدور الفاعل للدار فى الارتقاء بمجالات الثقافة والفنون، وتعتبر دار الأوبرا تحفة معمارية، حيث تلمس بعض تفاصيل القلاع العمانية المتمثلة فى الفتحات المتكررة الواقعة فى أعلى الجدران الخارجية، إضافة إلى استلهام تراث المشربيات الخشبية التى تميز البيوت العربية فى تصميم بعض التشكيلات الخشبية داخل المبنى وفى تصميم الفوانيس والثريات.

ويشكل إنشاء "دار الأوبرا السلطانية" فى مسقط منجزا جديدا من منجزات النهضة العمانية فى إطار الجهود الحثيثة المتواصلة التى تقوم بها السلطنة، بهدف إعطاء جل الاهتمام للإنسان العمانى فى كافة مراحل الحياة، ومنها مجالات الثقافة والفنون تمكينًا للمجتمع من التواصل مع حضارات وثقافات العالم.

 كما يأتى إنشاء "دار الأوبرا السلطانية" خطوة كبرى فى تطور التصاميم المعمارية العمانية، وهى التصاميم التى يمكن للناظر بجلاء تلمسها كذلك فى جامع السلطان قابوس الأكبر بمسقط وعدد من المنشآت الأخرى، حيث تم استثمار العمارة التقليدية العربية الإسلامية وعناصر هذه العمارة لخدمة الأغراض المستهدفة، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار التناسق والتناغم بين العناصر والتشكيلات المختلفة مع مراعاة اختيار المواد المناسبة التى اشتهرت بها العمارة العربية الإسلامية.

ومن قبل "دار الأوبرا" عرفت عمان تأثير الموسيقى أكثر فأكثر ومن ثم أنشأت "الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية"، والتى قدمت حفلها الافتتاحى فى أول يوليو 1987 بقاعة عمان الفخمة بفندق قصر البستان بمسقط، والذى جاء ضمن أنشطة الأوركسترا عبر تقديم عدد من الحفلات الحية فى كل عام تتضمن عزف روائع الأعمال الكلاسيكية للمرة الأولى، وهى تمثل إسهامها إيجابيا يضاف إلى العديد من الأنشطة الثقافية الأخرى فى البحث والدراسات التى تتعلق بفنون الموسيقى والغناء.

وانطلاقا من فهم "السلطان قابوس"، لأهمية الموسيقى فى حياتنا، فقد سبق هذين الحدثين اهتمام خاص من جانب جلالته، حيث نشأت "الفرقة السلطانية الأولى للموسيقى والفنون الشعبية" التابعة لديوان البلاط السلطانى فى عام 1976، لتبلور فى الواقع الاهتمام الخاص بجلالته بالموسيقى والفنون الشعبية العمانية، حيث كان الهدف من إنشاء هذه الفرقة هو التعرف بالفنون الموسيقية والفنون الشعبية العمانية بالإضافة إلى حفظ هذه الفنون الأصيلة وتدوينها لكى تواكب عملية التطور التى تشهدها السلطنة فى مختلف المجالات.

وتتكون تلك الفرقة من (350) شخصاً ما بين موسيقيين ومؤدين للفنون الشعبية والمنشدين، وجدير بالذكر هنا أن الذى شكل نواتها الأولى كان الراحل العظيم الدكتور "يوسف شوقى" العالم المصرى والأستاذ بكلية العلوم، والذى احترف التلحين والنقد والتحليل والتأريخ الموسيقى وأجاد العزف على العود واكتشاف الأصوات، وقدم برنامجا موسيقيا بالإذاعة المصرية فى السبعينيات والثمانينيات أسماه "ما لا يطلبه المستمعون"، وعاش أواخر عمره وإبداعه بسلطنة عمان، ودفن بها بناء على رغبته.

والحقيقة أننى وغيرى من عشاق الموسيقى الشرقية لمسنا جانباً من أصالة "الفرقة السلطانية" عندما استمتعنا قبل خمسة أيام (مساء الأحد الماضى) بأداء عذب نقى من جانب أعضاء الفرقة التى تتكون من الرجال والنساء جنبا إلى جنب، وقد عكست بأدائها عمق العلاقات الوثيقة بين مصر والسلطنة، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى والسلطان قابوس بن سعيد، فى إطار مشاركتها فى مهرجان الموسيقى العربية فى دورته الثامنة والعشرين فى مصر، برعاية الدكتورة راوية بنت سعود البوسعيدية، وزيرة التعليم العالي، رئيسة مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية، وبحضور الدكتور على بن أحمد العيسائى سفير السلطنة لدى مصر ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، ونخبة تضم مجموعة من كبار المسئولين والفنانين.

فى تلك الأمسية المشحونة بالموسيقى والنغم الشرقى الخالص، على إيقاع الكمان والعود والقانون، والتى أقيمت على خشبة مسرح معهد الموسيقى تألقت الفرقة عزفا وغناء، وكان من الواضح أنه تم اختيار برنامج الحفل بعناية بالغة، حيث تضمن أعمالا خالدة لأشهر المبدعين المصريين والعرب على مر عصور متعددة، من بين النغمات والألحان والكلمات التى ترددت أغنيات عديدة منها : و"قمر له ليالي"، و"على خده ياناس/ والنبى ياجميل"، لداود حسني، وغناء كارم محمود، و"حبيبى وعينيا لمحمد فوزي"، و"عندما يأتى المساء، ويامسافر وحدك، ومحلاها عيشة الفلاحة لعبد الوهاب"، و"أنساك لبليغ حمدي، ويامسهرنى لسيد مكاوي، وياليلة العيد لرياض السنباطى وغناء أم كلثوم"،و"هلت ليالي" لفريد الأطرش، وكان مسك الختام فى الأمسية أغنية "يا حبيبتى يا مصر" لشادية، والتى تفاعل معها الجمهورين المصرى والعمانى بشكل لافت للنظر.

ولأن الموسيقى تظل لغة واحدة للتواصل بين البشر ورغم تعدد لهجات أبناء الوطن العربى، اتفق الجميع على اعتبار تراث الطرب أحد علامات الحضارة المتفردة فى عناصرها ومقوماتها، ومن ثم يأتى "مهرجان الموسيقى العربية" فى كل عام كوسيلة للثقافة المصرية للتلاقى والتواصل بين شعوب الأمة، وإعادة تشكيل الوعى والارتقاء بالوجدان، ومن هنا تمثلت مشاركة الفرقة السلطانية الأولى للموسيقى والفنون الشعبية بتقديم أعمال ومؤلفات عربية وتراثية تعكس الموروث الثقافى والحضارى للسلطنة فى المهرجان، وفى كل مكان تذهب إليه بناء على توجيهات وفكر وفلسفة خاصة بالسلطان قابوس فى فهمه العميق وحبه الجارف للموسيقى.

والحقيقة المؤكدة والتى لمستها عن قرب فى شخصية السلطان قابوس أنه من هؤلاء الناس الذين يعطون للموسيقى التقدير اللائق لقيمتها التعبيرية، ومن هنا فقد استطاع أن يبنى فلسفة خاصة فى تأكيده لمحلية الموسيقى العمانية مع التواصل العالمي، والتى حققت أهدافها فى عدة اتجاهات منذ أكثر من 30 عاما مضت، فإلى جانب المركز المرموق الذى استطاعت الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية أن تحرزه، وإلى جانب المشاركة فى التأليف الموسيقى من قبل العمانيين، جاء التواصل العالمى من خلال مؤلفين من شتى بقاع الأرض، فإلى جانب مؤلفين من مصر شارك مؤلفون من الأرجنتين، وأمريكا، وروسيا، وألمانيا، كما شاركت أوركسترات من المملكة المتحدة، وشارك مؤشرون لقيادة الأوركسترا من المملكة المتحدة، وروسيا، وإيطاليا بمشاركة مغنى الباريتون من بولندا على مسرح "دار أوبرا عمان".

 لقد عرف عن "السلطان قابوس" حبه للقراءة والاطلاع على كل جديد فى عالم الفكر والسياسة؛ فقد كان فى أيام دراسته فى بريطانيا - كما عرفت من سيرته - يحب الاطلاع على الثقافة الغربية، والغوص فى عالم الروايات القديمة والكتب التاريخية ودراسة الآثار المعمارية، وكأنه كان يريد أن يعرف كل صغيرة فى سر تطور الدول الغربية ووصولها إلى هذا المستوى فى الفكر والثقافة والتعليم والتصنيع وغيرها، ولِمَ لا؟! أليس هو الحاكم المنتظر لعمان آنذاك؟.

كان يريد أن يبنى فى عمان دولة عصرية؛ لذا كان يريد أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون، وليس من حيث بدأوا؛ لذا عرف بنظرته الثاقبة واطلاعه الواسع على التاريخ العماني، كما أن لدية إدراك كبير منذ النشأة والصغر أن عمان تمتلك جميع المقومات التاريخية والطبيعية والجغرافية والسياسية التى تؤهلها لأن تكون ضمن الدول المتقدمة فى العالم؛ لذلك حرص أيضا على قراءة أمّهات الكتب فى الفلسفة الأوربية؛ من أجل أن ينهل من معارفها فى طرائق النظرة إلى الكون وإدارة الحكم والتعامل مع الواقع.

وفى هذا الصدد أذكر أن حديثا لجلالة السلطان نشر بمجلة "ميدل إيست بوليسي" فى أبريل 1995، تحدَث من خلاله عن قراءاته فى الفكر الفلسفى الأوروبي؛ حيث قال: "كانت ميزتى على غيرى أنى واظبت طوال عدة سنين على قراءة المصنفات السياسية والفلسفية للكثير من أبرز المفكرين فى العالم، فى بعض الحالات لم أكن -بالطبع - موافقا على الأفكار التى طرحوها، إلا أن عدم الموافقة تلك كانت بحد ذاتها أمرا قيما لتطوير آرائى الناجزة، وللاعتراف بضرورة مراعاة جميع جوانب القضية.

الاستماع إلى الموسيقى، خاصة الكلاسيكية منها من أحبِّ الهوايات إلى السلطان قابوس، كما أن لديه إلمام واسع جدا بأشهر الموسيقيين العالميين والأعمال الموسيقية العالمية، وقد ذكر "سيرجى بليخانوف" فى كتابه "مصلح على العرش": أن السلطان معجب جدا بالموسيقار العالمى "تشايكوفسكي، وريمسى كورساكوف، ورحمانينوف"، وقال أيضا: إنه من المعجبين بالعديد من الملحنين الأوروبيين؛ مثل: "سبيليوس"، وكذلك "برامز، وباخ، وإيلجار، وأولسون"، وبالدرجة الأولى الموسيقى الكلاسيكية، ولا يقتصر إعجاب السلطان قابوس على الموسيقى الكلاسيكية فقط، وإنما هو معجب أيضا "بالموسيقى الشعبية من مختلف الأقطار والقارات، وكذلك الأنغام الراقصة البولندية والرومانية والعربية.

وله آراء نقدية فى الموسيقى العربية التى يرى "أن مستوى الأداء فى الموسيقى العربية الراقصة انخفض كثيرا، وأصاب الخلل مسار التوارث؛ فلم يبق بين العازفين عدا عدد قليل من القادرين على صون موسيقانا الكلاسيكية كحدقة العين"، وفى ذات الوقت لا يخفى أيضا جلالته إعجابه بـ"الموشحات الأندلسية، والألحان التركية، والمقامات الإيرانية"، فضلا عن إعجابه أيضا فى الموسيقى الهندية والإفريقية.

ومن أجل كل ذلك جعل السلطان قابوس من "دار الأوبرا العمانية" منارة ثقافية تشع معرفة وفكرا وحضارة، مؤكدة على أن الثقافة الموسيقية تطورت بتأثيرات من ثقافات كثيرة: الهند وبلوشستان وإفريقيا، والعمانيون هنا ليسوا انطوائيين؛ بل لدينا جوقات وأوركسترات لجميع الأنواع الأساسية : الموسيقى السيمفونية والعسكرية والجاز…وغيرها، ومن هنا فهو يأمل بلوغ الأهداف فى النهوض بالمستوى الثقافى للشعب عموما، وبمستوى التعليم الموسيقى خصوصا، خاصة أن علاقته بالموسيقى يتجاوز مسألة الاستماع والنقد إلى الممارسة أيضا فى أوقات الاستراحة النادرة؛ لذلك يلتقط السلطان العود فى لحظات الاستجمام ويعزف عليه ارتجالا، وفى بعض الأحيان القليلة يعزف على الأرغن، إذن لم تأتى "أوبرا عمان" كصرح فنى ثقافى من فراغ، بل نتاج فكر قائد ومعلم أراد لشعبه أن يصنع حضارة تطاول السحب على ساحل الخليج العربي.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة