حين كنت أستمع إلى كلمات المسؤولين فى حفل تكريم المشاركين فى تأسيس البرلمان العربى للطفل الذى نظم بالشارقة فى دولة الإمارات بحضور ممثلين عن جامعة الدول العربية، كنت أرى ملامح المستقبل من باب تأملى لصفوفٍ من أطفالنا العرب يجلسون على مقاعد البرلمانيين الكبار، يتحدثون عن همومهم وهموم مجتمعهم، ينقلون بالصورة الواضحة والحقيقية مشاهد من الواقع وهم يحلمون أن يتحسن وضعها وتنحسر سلبياتها، ليس فقط لأنهم "برلمانيون" ولكن لأنهم أفراد من المجتمع، أفراد صغار يتيح لهم نضجهم وعمق رؤيتهم قياساً لأعمارهم الصغيرة أن يكونوا مرايا ناصعة تنقل الوقائع كما هى، أملاً فى تعزيز ما هو إيجابى وما يلبى طموحات الشعوب العربية فى الاستقرار والأمن.
إذاً، من هؤلاء الصغار؟ وماذا سيكونون؟ ما هى مكونات ثقافتهم وسقف أحلامهم ؟ وماذا يفعلون الآن فى حياتهم وكيف يعايشون حاضرهم؟ ماذا سيحملون لأقرانهم ممن هم فى جيلهم؟
يتراءى لى – كما أحلم – أن هؤلاء سيكونون أقدر على فهم مصيرنا فى الوحدة العربية، وعلى إدراك ضرورتها، وبالتالى سيكونون جنوداً فى تجاوز الخلافات التى تهددها وتعصف بها.
يتراءى لى كذلك أنهم سيكونون أقل إقبالاً على الممارسات التكنولوجية التى خطفت أطفالنا وشبابنا إلى عالمها الافتراضى، واحتار فى شأنها المختصون وعلماء النفس والتربويون والاجتماعيون، فلم يتمكنوا من وضع خطط تنفيذية لإنقاذ الصغار منها فتركوهم فى شباكها يعافرون الصور والأصوات والإضاءات والألوان والسلوكيات والانحرافات والقوى العنيفة وغيرها، وما على العقول "الصغيرة " سوى الاستسلام لحصارها لما يجدون فيها من بهارج تدهشهم وهى تتبدل كل يومٍ بشكل يجعلها راسخة فى أولى قائمة متطلباتهم اليومية حتى قبل الطعام والشراب.
هل سينجح البرلمانيون الصغار فيما لم ينجح فيه المختصون والبرلمانيون الكبار فى مكافحة كل ما يضر الأجيال والمجتمع برمته؟
أراهم فى المستقبل رجالاً كارهين للعنف لمجرد إظهار عضلات القوة، وللتغطية على أمراض النقص خوفاً من مواقف الضعف، ولإثبات رجولة أو شجاعة ما، أراهم وهم مدركون لمعنى الرجولة، ومعنى الشجاعة، ومعنى القوة.. وأن التنازل أحياناً فى بعض المواقف ليس ضعفاً قدر ما يجب عليه أن يكون الرجل، وأن ليس كل من يدفع بنا إلى الاستفزاز متعمداً نعالجه باستخدام قبضة العنف، أو منطق السباب، بل بالكلمة الواثقة، والنظرة البعيدة لما يحدث.
هل ننتظر جيلاً سيأتى وقد أعاد حمل لواء الدعوة إلى الوحدة العربية، ولواء "لا للعنف"، ولواء القوة والشجاعة فى مواجهة كل عدوٍ يهدف إلى تمزيق الصف الواحد.. لواء التعامل الإيجابى مع التكنولوجيا والاقتناع بعدم إعطائها إلا ما تستحق من زمن من أعمارنا قبل أن تسرق معظم الوقت.. معظم اليوم ومعظم الأسبوع.. معظم الشهر ومعظم السنة، فمعظم سنوات أعمارهم الغضة.
هل سيحملون لواء القضاء أكثر مع أفراد الأسرة والتنعم بحنانها والارتباط بها؟
هل سيحبون الحياة كما أراد الله أن تحب، فيحترمون ما فيها من عطايا إلهية عظيمة ويحافظون على مكتسبات أوطانهم ؟
هل سينبذون – ويدعون إلى نبذ - اللامبالاة والاستهزاء من كل شيء، والسلوك الذى لا يعكس أى شكل من أشكال احترام الذات.. واحترام المجتمع وقيمه؟
هل سيشعرون بمرارة الحنظل حين يسمعون أو يقرؤون كلماتٍ خارجة عن الأصول والآداب والأخلاق والحياء، فيسجلون موقفاً عملياً تجاهها، ويتمكنون من نشر هذا الموقف بين أقرانهم؟
إن تأسيس البرلمان العربي للطفل في الشارقة ليكون أحد المبادرات والمشاريع التنموية التي ترعاها جامعة الدول العربية، يأتي في سياق الاهتمام القيادي ببرامج تنمية الطفل على إبداء الرأي من قِبَلِ صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي أدرك منذ وقت مبكر أهمية أن ينمو الطفل على أن يكون له رأي، وأن يكون على استعداد ذهني لتقديم المشورة المناسبة لكل قضية تطرح في مجلس أنشأه لهؤلاء الأطفال، وعرف باسم "مجلس شورى الأطفال"، والذي تجاوز مرحلة الطفولة حين أراد الشيخ سلطان أن يعزز التجربة لدى الأطفال حتى لا تتلاشى فكرةً وتطبيقاً في مسيرة حياتهم، ففتح بابا يطل على "مجلس شورى الشباب" ليضمهم مجددا وقد أصبحوا أكبر سنا مصطحبين تجربة طفولتهم إلى مجالات أرحب تتجاوب معها مرحلة الشباب، ولم يكن هذا المجلس مقتصراً على أبناء الإمارات بل كان يتسع للمشاركين في الملتقيات العربية للأطفال والشباب التي ينظمها المجلس الأعلى لشؤون الأسرة بالشارقة، ليحلق الطفل العربي في أجواء الرأي الحر في قضايا تمسه كما تمس مجتمعه بدءاً بالتعليم والتربية ورعاية مواهبه والصحة والأسرة، وصولاً إلى الإعلام والأمن والاقتصاد والمجتمع كله.. بما تتضمنه من تفاصيل بعضها لها علاقة مباشرة بتنمية الطفل، حيث يتاح للطفل أن يقول رأيه في برامج تنميته في هذه القطاعات، ويتجاوز ذلك إلى الممارسات المجتمعية، الأمر الذي جعل المجلس الوطني الاتحادي في الإمارات يتيح لأعضاء مجلس شورى الأطفال فرصة المشاركة الديمقراطية في بعض جلساته.
إن برلمان العرب الصغار- أطفالاً وشباباً، ذكوراً وإناثاَ- بما أنهم سيكونون في كنف اعتناء ورعاية على أعلى مستوى .. فلا قلق إزاء أنهم سيكونون حاملي تلك الأولوية، فالمجلس الاستشاري بالشارقة يوسع مهامه المعروفة في العمل البرلماني إلى إنشاء جيل متمكن من أداء المهمة بتوجيهات صاحب السمو حاكم الشارقة، لتكون الإمارات أرض بناء الإنسان العربي الذي يحسن حمل المسؤوليات الكبيرة التي تكتسب وقود أهميتها من حاجة الإنسان إلى الأمان في نفسه والاستقرار في مجتمعه من منطلقات إنسانية ووطنية مستقاة من منبع القيم السماوية العليا الداعمة لكل شيء جميل في حياتنا. هناك برلمان للطفل العربي، يعني أن هناك مستقبلاً عربياَ آخر سيكون بحوزتنا قريباً إن شاء الله.
إن على المؤسسات العربية المعنية تدريبهم على الحياة الانتخابية وثقافتها.. على أن يكون لديهم الوعي بالواقع الذي يرون أهمية إصلاحه حتى يسير النماء في كافة المجالات حسب ما رسم له من منهج محوره مصلحة المجتمع واستقراره.. نعم، نحن نفرح بمن امتلك منهم مهارة الكلام والحوار القائم على التفكير والبحث فيه وصولاً إلى النتائج أو الوصايا.. ولكن محتوى هذا الكلام هو ما يهمنا، فمهامه أخرى تضاف إلى الحوار المحاط بثقة المحاور هي مهارة فهم الواقع، وفهم ما نريد إصلاحه، لأن الطفل البرلماني في هذه الحالة سيبدأ بنفسه في إصلاح ذاته، ومن حوله مؤمناً أن فاقد الشيئ لا يعطيه، الطفل البرلماني نموذج لجيل في الفكر المتزن والثقة والفرد الحاضر في كل موقع في مجتمعه، يتأمل ويقرأ الواقع ويصيغه ومن ثم ينقله إلى أصحاب القرار.
* كاتبة اماراتية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة