كانت المناقشات تزداد سخونة بين القادة العرب فى مؤتمر القمة العربية الطارئ المنعقد فى القاهرة لوقف القتال بين الجيش الأردنى وقوات المقاومة الفلسطينية بالأردن، وكان المؤتمر يشهد لمحات نادرة شهد المشاركون بعضها، وأخرى لم يعرف أحد عنها شيئا لطابعها الثنائى كالحوار النادر بين جمال عبدالناصر والكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل يوم 25 سبتمبر «مثل هذا اليوم» 1970، وكان هيكل ضمن أعضاء الوفد المصرى فى المؤتمر بصفته وزيرا للإرشاد القومى بخلاف رئاسته لتحرير «الأهرام».
يذكر هيكل فى كتابه «الطريق إلى رمضان»: «كان فندق النيل هيلتون قد حجز للمؤتمر كله، وخصص لكل رئيس وفد ومستشاريه ورجال حراسة وغيرهم طابق بحاله، وكان عبدالناصر ينزل فى الطابق الحادى عشر، وكنت ظهر أحد الأيام، وكانت فترة هادئة نسبيا من فترات المؤتمر، كنت أجلس معه نتبادل الحديث، وقلت له إنه لجميل أن يقيم الإنسان فى الفندق بين الحين والآخر كنوع فى التغيير، فقال: أنا لا أجد ذلك جميلا، إنه كالقشلاق، ثم قال إنه جائع، وسأل: «هيكل، أتظن أن الطعام هنا فى الهيلتون مختلف عن الطعام الذى آكله فى البيت؟».
أجاب هيكل: «المسألة تتوقف ما الذى ستطلبه؟.. قال، إنه يريد بعض السندوتشات، وأرسل فى استدعاء سفرجى عاد بنوع «سندوتشات» الجبن الأبيض نفسه الموجود دائما فى بيت عبدالناصر، وكان التفسير لذلك أن دواعى الأمن استدعت إحلال طهاة الرؤساء الخصوصيين محل طهاة فندق هيلتون وعمال مطبخه، وقلت لعبدالناصر، إن هذا ليس نوع الطلب الذى كان يجب أن يطلب فى فندق كالهيلتون، فقال: وماذا يطلب الناس فى الهيلتون عادة؟ فقلت: عادة فى منتصف النهار لا يطلبون سندوتشات جبن.. ربما طلبوا «كانابيه» قطع صغيرة من الخبز المستطيل بالسالمون المدخن»، وأضفت ضاحكا ومداعبا: «وربما بعض المارتينى.. فقال: المارتينى.. ألا يخشون أن يكون ذلك سببا فى دخولهم النار فى الآخرة؟ قلت: إنهم يعتقدون أن الله غفور رحيم، وأن المهم هو تصرفات الإنسان وسلوكه.. وسكت عبدالناصر لحظة، ثم سأل فجأة سؤالا غريبا عدت إلى تذكره كثيرا فيما بعد: هل أنت مؤمن؟.. فقلت: أجل.. وبالقطع أنا مؤمن، فسأل: «إذن قل لى: ماذا بعد الموت؟.. فقلت: «سؤال بالغ الصعوبة»، وأعتقد أن الجنة والنار هما هنا فوق هذه الأرض، وربما كان القصد من ذكرهما هو الرمز للخير والشر»، وفى إمكاننا نحن أنفسنا أن نجعل من حياتنا جنة أو نارا.. أما بعد الموت فربما كانت النهاية».. فقال عبدالناصر: «أتعنى أن من يفعل خيرا على هذه الأرض لا يدخل الجنة؟. قلت: «لا أدرى وإنما أظن أن الجنة والنار رموز».. قال: ذلك يعنى أننا بالموت ننتهى، وهذا كل شىء».. قلت: «هذا كل شىء» فقال: «هذا ليس مطمئنا». يعلق هيكل: «بعد ثلاثة أيام كان عبدالناصر قد انتقل إلى رحاب الله».
فى نفس اليوم «25 سبتمبر»، كان هناك حدث نادر اكتملت فصوله وجرى تنفيذه فى سرية تامة، منذ أن سافر الوفد العربى برئاسة الرئيس السودانى جعفر نميرى إلى عمان بتكليف من مؤتمر القمة العربية، وكلف عبدالناصر الفريق صادق «عضو الوفد» سرا بتهريب ياسر عرفات من الأدرن إلى القاهرة.. «راجع- ذات يوم 24 سبتمبر 2018».
ويكشف الفريق صادق فى مذكراته «مجلة أكتوبر- القاهرة- 18 سبتمبر 2011»، أنه بينما كان وفد القمة العربية يجتمع بالملك حسين، كان هو يمضى فى تنفيذ مخططه السرى فى تهريب عرفات ياسر عرفات بمساعدة الضابط «إبراهيم الدخاخنى» المستشار العسكرى فى السفارة المصرية.. ارتدى عرفات زى الوزير الكويتى سعد العبدالله الصباح على سبيل التمويه، ويؤكد «صادق» أنه طلب من السلطات الأردنية اصطحاب أفراد أسر موظفى السفارة للعودة بهم إلى القاهرة، وبالفعل وصل عدد من السيدات والأطفال استعدادا للانتقال إلى المطار، وأبلغ صادق، أبوعمار أنه لابد من حلاقة ذقنه، لكنه عارض بشدة، ثم وافق، وطالبه صادق بأن يسجل بيانا بصوته يهاجم فيه الأردن يعلن فيه استمرار القتال حتى وقف إطلاق النار، وذلك كنوع من التمويه لاستكمال مخطط خروجه.
يضيف «صادق» أن عرفات ركب فى سيارة بين سيدة مصرية وابنتها، حتى وصلت إلى المطار، واتجه على الفور إلى الطائرة، بينما كان صادق يشاغل الضابط الأردنى المسؤول، وأقلعت الطائرة، ووصلت يوم 25 سبتمبر «مثل هذا اليوم» من عام 1970، واتصل صادق بالرئيس عبدالناصر الذى بادره بالسؤال: «ماذا فعلت؟»، أجاب صادق: «ياسر عرفات» أبوعمار «عندى فى المكتب»، فرد عبدالناصر غير مصدق: «معك فى القاهرة»، أجاب صادق: «نعم يا أفندم بجوارى الآن يرتدى بدلة الياور المرافق لى»، فقال عبدالناصر: «حالا تكون عندى فورا»، يؤكد صادق: «بعد دقائق كنا فى منزل الرئيس عبدالناصر، وكان اللقاء مؤثرا، وتعانق مع عرفات مرددا عدة مرات: «الحمد لله».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة