- لأول مرة بخط يده ننشر رسائل العشق والتقديس إلى حب العمر «وردة».. ولأول مرة ننشر خواطره ومسودات أشعاره فى أيام المرض
- وثيقة تثبت رغبته الكبيرة فى نشر الوعى الدينى «الذى أصبح الآن مفقودا بنسبة كبيرة» وسعيه المحموم ليقدم «ولو خطوة فى خدمة الدين»
رحلة تاهت روحى فيها وتهت فيها
هنا هنا، جزء عظيم من تاريخنا، هنا هنا، قطعة غالية من جدارية أرواحنا، هنا هنا، آثار يد حفرت فى القلوب متسعا للعشق، وفى العيون مجرا للدمع، وفى الوجدان حدائق وأعناب، وفى الليل آهات وشجون، هنا هنا «نغمة طيبة» أصلها فى تراب مصر وأراضيها، وفرعها فى سماء الفن وعبقريته.
هنا آثار بليغ حمدى الذى يشبه اسمه فى حضوره وعمق تأثيره، ويشبه اسمه فى وقعه الخفيف وفاعليته الثقيلة، ويشبه اسمه فى إيجازه وأصالته، كان قصيرا، لكنه استطال بالنغم فبلغ سماء الوجد وسماء الشوق وسماء الآه، كان ضعيفا، لكن روحه التى استطاعت أن تأسر أمة بكاملها لم تعترف بهذا الضعف، هو تماما مثلما قال عبد الرحمن الأبنودى عن فؤاد حداد
«بسيط يا مولاى
والضحكة فى صدرك قوت
فقير يا مولاى
ورازقنا حرير وياقوت»
فاتت «25» سنة.. حتى الجواب منكم موصلش
25 عاما مرت على رحيله، لكننا لم نشعر برحيله قط، ولن نشعر، أقسم على هذا، هو هو على حاله، هو هو على عذوبته، هو هو على طيبة قلبه وصدق انفعاله، كرمه الذى وصل إلى حد التهور مازال موجودا ومازالت آثاره على أرواحنا باقية آمنة، دفئه العابر للأمكنة والأزمنة مازال قادرا على إذابة جبال الجفاء بين الحبيب والحبيب، وبين الأم والابن، بين الواحد ونفسه، فعظمة الموسيقى تقاس بمدى استطاعته أن يقرب بينك وبين الآخرين، لكن بليغ من تلك القلة التى تستطيع أن تقربك إلى نفسك، وتقرب نفسك إليك، ومن ذا الذى يستطيع أن ينسى من فك شفرة مشاعره، وحل معضلة ذاته مع ذاته، من هذا الذى يستطيع أن يبتعد عمن كان قريبا إلى حد التوحد، ولصيقا إلى حد الالتحام، فلتمر السنون كما ترى، ولتمضى الأعوام واحدا بعد آخر، لكن بليغ لن يمضى، بليغ لن يمر، فله فى القلب مسكن وله فى العمر ساحة، وله فى الحنين باع وزراع.قد اللى فات من عمرى بحبك وقد اللى جاى من عمرى بحبك
كل من يعرف «بليغ حمدى» يقول إن بليغ كان يعيش فى الموسيقى، يعيش بالموسيقى، يعيش كالموسيقى، عذب وسهل وقريب، هو معنى وليس جسدا، شعور خالص، إحساس صاف، جمال محض، خاطف كالجملة المبهرة، وحنون ومطمئن كنغمة ركوز المقام، لكنه برغم هذا عصى على القبض، لا يستطيع أحد أن يعرف أين بليغ ولا أين سيكون حتى بليغ نفسه، يمشى وراء النغمة على غير هدى، فيهدى قلوب العاشقين ويربت على كتف المخطئين، من رآه وجلس معه يؤكد تماما أنه جلس معه ولم يجلس معه، رآه ولم يره، فقد كان بليغ جالسا هنا نعم؟ لكنه بالكاد يتكلم، بالكاد يفضفض، يتخاطب مع الناس بالروح، يخبرك بأنه يسمعك دون أن ينطق بكلمة واحدة، يؤكد لك أنه يفهمك تماما دون أن تلمح منه إشارة دالة، بالروح يسمع وبالروح ينفعل، وبالروح يشعر، لا تعرف هل يستشف الموسيقى من كلماتك فيحولها إلى نغمات تتلاقح فى ذهنه، أم هو مشغول بالموسيقى عن كلماتك فبقى فيما يبقى، وذهب عما يفنى؟
أنا كنت إيه قبل ما أشوفك؟ أنا كنت إيه؟
كانت الموسيقى المصرية قبل بليغ حمدى فى مرحلة من أعظم مراحلها، كان فى الوسط الفنى زكريا أحمد بجلالة قدره، عبد الوهاب بسلطانه وهيلمانه، السنباطى بعظمته وقوته، القصبجى بعلمه الذى لا يفنى وريادته المتأصلة وأستاذيته للجميع، محمود الشريف بشقاوته وسحره، وكان وراء كل هذا وأمام كل هذا السيد سيد درويش الذى كان حاضرا فى الجميع ملهما للجميع، ظهر بليغ حمدى فى وقت كان فيه الناس على إعجابهم بعبده الحامولى وكامل الخلعى وأبوالعلا محمد ومحمد عثمان وعبد الرحيم المسلوب، كان الناس مازلوا مغرمين بأدوار داود حسنى، ومازلوا يستملحون صوت زكى مراد والد الفنان ليلى مراد، ظهر بليغ حمدى وقد ظن الجميع أن الموسيقى المصرية تشبعت ووصلت إلى مرحلة النضوج، وانتظر الجميع أن تخفت تلك الروح بعد وصولها إلى أعلى عليين، لكن بليغ كان حاضرا، ليصنع بموهبته الخالصة تيارا فنيا جديدا، ليخترع نغمة تخصه وحده، ليخترع لغة يتكلمها وحده فيفهمها كل الناس، ليخترع روحا لموسيقاه المتفردة فيغرم بها كل الناس، حتى يجبر أساتذته على التأثر به ومسايرته فى الطريق الذى اخترعه.تخونوه.. وعمره ما خانكم ولا أشتكى منكم؟
لم يعش بليغ حمدى فترة أصعب من تلك التى عاشها خارج مصر منفيا مبعدا متهما، تلك قضية ورطنا فيه تاريخ بليغ حمدى كما يورط جاهل صفاء الحلم بمشهد من كابوس، كما يورط فيها العابث صفاء اللبن فى حفنة من تراب، كان الجميع يعلم تماما أن بليغ أرق من الرقة ذاتها، أكثر إنسانية ممن اخترعوا هذا المصطلح، أكثر رحمة بالعالم من أحن أم على أولادها، لكنهم لم يبحثوا عن قاتل سيدة فى شقته واستسهلوا اتهامه، فهرب، من الصدمة هرب، من الخوف هرب، من الألم هرب، لكنه لم يدر أنه كان يهرب من جحيم محتمل إلى عين الجحيم، من ألم قابل للعلاج بالمسكنات إلى ألم مزمن عصى على العلاج.
وكل ما أحلم بالرجوع.. تجرى من عينى الدموع
حكى لى الموسيقار النبيل وعازف الكمان الشهير أمين عبدالعظيم حكاية لم تنشر من قبل عن بليغ فى الغربة، تقول تلك الحكاية إن بليغ أتى إلى عبد العظيم ذات يوم بعد أن انتهى من عمله، فقال له «اعزف شوية بياتى يا أمين، فعزف أمين واندمج، وانتشى بليغ بالعزف و«اتسلطن»، ثم ابتهج أمين هو الآخر بالعزف فبدأ باستعراض عضلاته، فعزف بالطريقة التركية قليلا فصاج بليغ منتشا «أيوة.. يا أمين أيوة.. ودينا على تركيا ومنها ع السودان وروح بينا على تونس.. لف بينا الدنيا كلها» قال له أمين «هوديك العالم كله بس مش هقدر أوديك مصر»، وما أن قال «أمين» هذه الجملة حتى شعر بفداحة الجريمة التى ارتكبها، فقد كان بليغ وقتها فى أعتى موجات الحنين إلى مصر، كان مكتئبا لا يخرجه من هذا الاكتئاب سوى النوم أو الموسيقى، كان مشحونا بالعاطفة مريضا بالعشق المزمن واللقاء المؤجل دوما»، سمع بليغ هذا الجملة فانفجر فى البكاء، كان البكاء حارا لدرجة جعلتنى أستشعر تلك الحرارة كلما حكى «عم أمين» هذه الواقعة أمامى، بكى ثم بكى ثم بكى، وظل يردد من بين الدموع، «يا حبيبتى يا مصر.. يا حبيبتى يا مصر.. يا حبيبتى يا مصر»، وبعد تلك الليلة قاطع «عم أمين» لمدة عام كامل، بعد أو وشى به أحد الحاقدين عند بليغ وزعم كاذبا أنه قصد بهذه الجملة مكايدة «بليغ» بالضغط على عصبه العارى.. مصر.يا حبيبتى يا مصر يا مصر
للجميع مصرهم، ولبليغ حمدى مصره، تخيلها الجميع قبله فى صور بالغة التعدد، وفى الغناء الجميع استعرض كل العضلات الممكنة، منذ «اسملى يا مصر إننى الفدا، وحتى مصر التى فى خاطرى»، وصولا إلى «الله أكبر فوق كيد المعتدى» و«طول ما أملى معايا معايا وفى إيديا سلاح»، لكن عند بليغ كان لمصر صورة أخرى، مع بليغ صارت مصر الصديقة، مصر الرفيقة، مصر التى تصطحبها معك وأنت فى المترو، والتى تجرها فى نزهة على الكورنيش لتأكلا الدرة المشوى، مصر التى العالية لا المتعالية، مصر الكبيرة لا المتكبرة، مصر بليغ حمدى هو القريبة من القلوب والعقول والحضن، مصر التى ترقص على الربابة وتتمايل مع السمسمية، مصر بليغ حمدى هى التى مصرت وردة وجعلتها حلقة غالية فى تاريخنا بـ«حلوة بلادى السمرا بلادى» مصر بليغ حمدى التى قال عنها الأبنودى «لولا مصرية بليغ حمدى لفقدت مصريتى»، ومصر عند بليغ «ع الترعة بتغسل شعرها»، وفى حضنه يغنى لها «يا حبيبتى يا مصر يا مصر» وحتى فى العبور تلمح تلك الرقصة الشعبية فى «سينا يا سينا بسم الله بسم الله.. وأدينا عدينا باسم الله بسم»
يا أجمل ليلية فى عمرى حبيبى جاى
تحج القلوب إلى قلب بليغ، تشد الأذن رحالها إلى نغماته العذبة المضيافة، تبتهج العين برؤيته كأحد الأدلة المادية على عبقرية مصر وخصبها، ولهذا كانت آلام بليغ آلام لمصر كلها، وكانت فرحة الناس بعودته، لا يعادلها فرح، ففى تسجيل مبهر أذاعه الفنان سمير صبرى ظهر بليغ وسط المرحبين بعودته عقب فك أسره ورجوعه إلى مصر بعد إثبات براءته، وكان طبيعيا أن يكون فى استقباله جميع أحبابه، أو قل جميع رموز مصر الفنية، الجميع يرحب، الجميع يقبل، الجميع ويحتضن، كان رحيله هزيمة، وكانت عودته انتصار، وبالطبع كان من بين هؤلاء الأحبة حب العمر «وردة» التى قابلته وقبلته مثل كل الناس، لكن جزءا من الثانية كشف ما بالقلب، فلم يكتف بليغ بالقبلتين الرسميتين، وأراد ثالثة يشفى بها الروح من ألم الفراق، ويبل بها جفاف الغربة التى عاش فيها، لكن وردة لم تنتبه، وربما انتبهت ومنعت نفسها خشية افتضاح أمرها، وجزء من الثانية، أظهر بليغ فى تلك الحالة الأبدية من العطش المزمن.يا اللى مليت بالحب حياتى أهدى حياتى إليك
ربما كان هذا العطش هو السبب الحقيقى لكل الشجن الذى نشعر به فى أغنياته، وربما كانت تلك الصورة هى الحقيقة الخالدة فى عمر بليغ، فقد تدرج فى مراتب الشوق حتى وصل إلى أعلى مراتبه، من الشوق للحب، إلى الشوق إلى الحبيب، ومن الشوق للأرض، حتى الشوق لمعنى الوطن، ومن الشوق إلى النغمة، إلى الشوق إلى الجملة، شوق بعد شوق بعد شوق، حتى تحول بليغ إلى معنى عام، شعر مصفى، روح مشرعة، لا تصدق أبدا أنك لم تره ولم تجلس معه، لا تصدق أبدا أنه رحل منذ ربع قرن وإننا نحاول اليوم أن نحيى ذكراه، وهو الذى أحيا وجداننا وكسى عظام أحساسنا لحما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة