فى ذكرى الرحيل الـ37.. 5 قصائد لـ صلاح عبد الصبور عن الإنسان

الثلاثاء، 14 أغسطس 2018 02:00 م
فى ذكرى الرحيل الـ37.. 5 قصائد لـ صلاح عبد الصبور عن الإنسان الشاعر صلاح عبد الصبور
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تمر اليوم الذكرى الـ 37 لرحيل شاعر مصر الكبير، صلاح عبد الصبور، الذى كان يحتفى بالإنسان وأحزانه، لذا سنعيد نشر 5 قصائد احتفى فيها بالإنسان:
 

مرثية رجل عظيم

كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى

وأن يرى الجمال فى النظام
وكان نادرَ الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميّتة يخاف أن يبعثها كلامُهُ
ناشرة الفودين، مرخاة الزمام
وكان فى المسا يطيل صحبةَ النجوم
ليبصر الخيط الذى يلمُّها
مختبئا خلف الغيوم
ثم ينادى اللهَ قبل أن ينام
الله، هب لى المقلة التى ترى
خلف تشَتُّتِ الشكول و الصور
تغيُّر الألوان و الظلال
خلف اشتباه الوهم و المجاز و الخيال
وخلف ما تسدله الشمس على الدنيا
وما ينسجه القمر
حقائقَ الأشياء و الأحوال
وتسألوننى: أكان صاحبي؟
هل صحبة تقوم بين سيدٍ عظيم
وخادمٍ محتال؟
مرثية صديق كان يضحك كثيرا
كان صديقي
حين يجىء الليل
حتى لا يتعطَّن كالخبز المبتل
يتحول خمرا
تتلامس ضحكته الأسيانة فى ضخكته الفرحانة
طينا لمَّاعاً أسود
أو بلورا
ويخشخش فى صوت الضحكات المرسَل
صوت كتكسُّر قشر الجوز المثقل
كنا نتلاقى
أو بالأحرى نتوحد, كل مساء
فى قاع الحانة
كالأكواخ المتقاربة المنهارة
والريح من الشباك المترب للشباك المترب
تتسكّع بين فراغات الأشياء
يتنحَّى كلٌّ منا عن موضعه للجار الأقرب
لا عن أدب و حياء
بل خوفا أن تختل الدورة
إذ نتصادم أو نتلاقى
كلمات، أو أذرعة، أو آلاما، أو أهواء
حذرا أن نهتز و نتفتَّح
يتقارب كلٌّ منا فى داخله كالأجَمِ الفارغ
فإذا مال تنحنح
كان صديقى فى ساعات الليل الأولى
يتجول فى بلدتهِ
كانت بلدتُه ساعات الليل الأولى
و يجمِّع من مهجته المنثورة
أو من بهجته المكسورة
ما ذاب نهارا فى أسفلت الطرقات
يترشَّفُه قطرات...قطرات
حتى يمتلىء كما تمتلىء القارورة
يتعمَّمُ بالختم الطينى اللمَّاع على عينيه الطيبتين
ينقش فوق نداوته المحبورة
صورةَ كون فياض بالضحكات
يتدحرج نحو الحانة
يتعثَّر فى أيدينا مختارا
يهوى مسفوحا
يتأرَّج عطرا، ريحا، روحا
يجعلنا أحيانا نضحك كالخمر الصفراء
إذ ندرك أان الأشياء المبذولة، مبذولة
والأشياء العادية، عادية
والأشياء الملساء، مجرد أشياء ملساء
يجعلنا أحيانا نضحك، إذ يضحك كالخمر السوداء
إذ يبصر فى ورق الشجر المتهاوي
موتَ البذرة
أو يتحسَّسُ بلسان الحكمة، و اللامعنى
حين يمصُّ ثنايا امرأة فى قُبلتها الأولى
جدرانَ الجمجمة النخِرة
كنا، وصديقى، فى آخر ساعات الليل
نتحول عاصفة مخمورة
تتخدد فوق ملامحنا
تجعلنا نهتزُّ و نتفتَّح
تجعلنا نتكسَّر
حتى نبدو كتلا متشابهة، متكررة، متآلفةً
من إنسان فرد متكثِّر
مات صديقى أمس
إذ جاء إلى الحانة، لم يُبصر منا أحدا
أقعى فى مقعدهِ مختوما بالبهجة
حتى انتصف الليل
لم يُبصر منا أحدا
سالت من ساقيهِ البهجة
وارتفعت حكمته حتى مسَّت قلبَه
فتسمَّم بالحكمة
غاب الندماء، فلم يقدر أن يتحول خمرا
وتفتَّت مثل رغيف الخبز. 
 

القديس

إلىّ، إلىّ، يا غرباء يا فقراء يا مرضى

كسيرى القلب والأعضاء، قد أنزلت مائدتي
إلىّ، إلىّ
لنَطْعَمَ كسرة من حكمة الأجيال مغموسه
بطيش زماننا الممراح
نُكسِّر، ثم نشكر قلبنا الهادي
ليرسينا على شط اليقين، فقد أضل العقل مسرانا
إلى إليّ
أنا، طوفت فى الأوراق سواحاً، شبا قلمي
حصاني، بعد أن حلمت بى الأوهام والغفله
سنين طوال، فى بطن اللجاج، وظلمة المنطق
وكنت إذا أجن الليل، واسنخفى الشجيونا
وحنّ الصدر للمرفق
وداعبت الخيالات الخليينا
ألوذ بركنى العاري، بجنب فتيلى المرهق
وأبعث من قبورهم عظاماً نخرة ورؤوس
لتجلس قرب مائدتي، تبث حديثها الصياح و المهموس
وان ملت، وطال الصمت، لا تسعى بها أقدام
وان نثرت سهام الفجر، تستخفى كما الأوهام
وقالت:
بأن النهر ليس النهر، و الإنسان لا الإنسان
وأن حفيف هذا النجم موسيقى
وأن حقيقة الدنيا ثوت فى كهف
و أن حقيقة الدنيا هى الفلسان فوق الكف
وأن الله قد خلق الأنام، ونام
و أن الله فى مفتاح باب البيت
ولا تسأل غريقاً كُبّ فى بحرٍ على وجهه
لينفخ بطنه عشباً وأصدافاً وأمواها
كذلك كنت
وذات صباح
رأيت حقيقة الدنيا
سمعت النجم و الأمواه والأزهار موسيقى
رأيت الله فى قلبي
لأنى حينما استيقظت ذات صباح
رميت الكتب للنيران، ثم فتحت شُباكي
وفى نفس الضحى الفواح
خرجت لأنظر الماشين فى الطرقات، والساعين للأرزاق
وفى ظل الحدائق أبصرت عيناى أسراباً من العشاق
فى لحظة
شعرت بجسمى المحموم ينبض مثل قلب الشمس
شعرت بأننى امتلأت شعاب القلب بالحكمه
شعرت بأننى أصبحت قديساً
وأن رسالتى.. 
هى أن أقدسكم.
 
 

شنق زهران 

وثوى فى جبهة الأرض الضياء

ومشى الحزن إلى الأكواخ
تنين
له ألف زراع
كل دهليز زراع
من أذان الظهر حتى الليل
يا الله
فى نصف نهار
كل هذى المحن الصماء فى نصف نهار
مذ تدلى رأس زهران الوديع
******
كان زهران غلاما
أمه سمراء، والأب مولّد
وبعينيه وسامه
وعلى الصدغ حمامه
وعلى الزند أبو زيد سلامه
ممسكا سيفا، وتحت الوشم نبش كالكتابه
اسم قرية
( دنشواى )
شب زهران قويا
ونقيا
يطأ الأرض خفيفا
وأليفا
كان ضحاكا ولوعا بالغناء
وسماع الشعر فى ليل الشتاء
ونمت فى قلب زهران، زهيره
ساقها خضراء من ماء الحياه
تاجها احمر كالنار التى تصنع قبله
حينما مر بظهر السوق يوما
ذات يوم...
مر زهران بظهر السوق يوما
واشترى شالا منمنم
ومشى يختال عجبا، مثل تركى معمم
ويحيل الطرف.. ... ما أحلى الشباب
عندما يصنع حبا
عندما يجهد أن يصطاد قلبا
******
كان ياما كان
أن زفت لزهران جميله
كان ياما كان
ان انجب زهران غلاما..  وغلاما
كان ياما كان
أن مرت لياليه الطويله
ونمت فى قلب زهران شجيره
ساقها سوداء من طين الحياه
فرعها أحمر كالنار التى تحرق حقلا
عندما مر بظهر السوق يوما
ذات يوم
مر زهران بظهر السوق يوما
ورأى النار التى تحرق حقلا
ورأى النار التى تصرع طفلا
كان زهران صديقا للحياه
ورأى النيران تجتاح الحياه
مد زهران إلى الأنجم كفا
ودعا يسأل لطفا
ربما.. . سورة حقد فى الدماء
ربما استعدى على النار السماء
وضع النطع على السكة والغيلان جاءوا
وأتى السياف مسرور وأعداء الحياه
صنعوا الموت لأحباب الحياه
وتدلى رأس زهران الوديع
قريتى من يومها لم تأتدم إلا الدموع
قريتى من يومها تأوى إلى الركن الصديع
قريتى من يومها تخشى الحياه
كان زهران صديقا للحياه
مات زهران وعيناه حياه
فلماذا قريتى تخشى الحياه. 
 

مرثية رجل تافه

 مضت حياته...كما مضت

ذليلة موطَّأة
كأنها تراب مقبرة
و كان موته الغريب باهتا مباغتا
منتظَرا، مباغتا
الميتة المكررة
كان بلا أهل, بلا صِحاب
فلم يشارك صاحبا_حين الصبا_لهوَ الصبا
ليحفظ الوداد فى الشباب
طان وحيدا نازفا كعابر السحاب
و شائعا كما الذباب
و كنتُ أعرفه
أراه كلما رسا بى الصباح فى بحيرة العذاب
أجمع فى الجراب
بضع لقيمات تناثرت على شطوطها التراب
ألقى بها الصبيان للدجاج و الكلاب
و كنت إن تركتُ لقمة أنفتُ أن ألمُّها
يلقطها, يمسحها فى كمِّهِ
يبوسها
يأكلها
فى عالم كالعالم الذى نعيش فيه
تعشى عيون التافهين عن وساخة الطعام و الشراب
وتسألونني: اكان صاحبي؟
وكيف صحبةٌ تقوم بين راحلَيْن؟
إذن لماذا حينما نعى الناعى إلى نعيَهُ
بكيتهُ
و زارنى حزنى الغريب ليلتين
ثم رثيتهُ. .!
 

الحزن 

يا صاحبى، إنى حزين

طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهى الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست فى ماء القناعة خبز ايامى الكفاف
ورجعت بعد الظهر فى جيبى قروشْ
فشربت شاياً فى الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفى والصديق
قل ساعة او ساعتين
قل عشرة او عشرتين
وضحكت من اسطورة حمقاء رددها الصديق
ودموع شحاذ صفيق
وأتى المساء
فى غرفتى دلف المساء
والحزن يولد فى المساء لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم الى الجحيم
حزن صموتْ
والصمت لا يعنى الرضاء بأن أمنية تموت
وبأن أياماً تفوت
وبأن مرفقنا وَهَنْ
وبأن ريحاً من عَفَنْ
مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت
حزن تمدد فى المدينه
كاللص فى جوف السكينه
كالأفعوان بلا فحيح
الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز
وأقام حكاماً طغاه
الحزن قد سمل العيون
الحزن قد عقد الجباه
ليقيم حكاماً طغاه
يا تَعْسَها من كِلْمة قد قالها يوماً صديق
مغرى بتزويق الكلام
كنا نسيرْ
كفى لكفيه عناق
والحزن يفترش الطريق
قال الصديق:
يا صاحبي!...
ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سموم
أو منية حمقاء...
أو أن اسمينا ببرج النحس كانا، ياصديق
وجفلت فابتسم الصديق
ومشى به خدر رفيق
ورأيت عينيه تألقتا كمصباح قديم
ومضى يقول:
"سنعيش رغم الحزن، نقهره، ونضع فى الصباح
 
أفراحنا البيضاء، افراح الذين لهم صباح"..
ورنا إليَّ...
ولم تكن بشراه مما قد يصدقه الحزينْ
يا صاحبى!
زوِّق حديثك، كل شيء قد خلا من كل ذوق
أما أنا، فلقد عرفت نهاية الحدر العميق
الحزن يفترش الطريق...
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة