كانت الساعة الثامنة مساء يوم 14 يوليو «مثل هذا اليوم 1954»، حين دخل شاب ومعه فتاة مكتبة المركز الثقافى الأمريكى فى الإسكندرية، وحسب كتاب «عملية سوزانا» لعادل حمودة، فإن الفتاة كانت «حلوة، مراهقة، مرحة، لا تخفى شقاوتها، ولاتخجل من حرية الحركة التى منحتها لصدرها داخل بلوزة من القطن المطبوع، والتفت الموجودون إلى الفتاة وهذا أمر طبيعى، لكن لا أحد منهم التفت إلى جراب نظارة من الجلد، كان الشاب يمسك به فى يده، ولا أحد منهم انتبه إلى أن الشاب تعمد أن يترك الجراب على رف من رفوف المكتبة الخشبية التى تدور مع الحائط.. بالتحديد الرف السفلى من الزاوية اليمنى الأمامية من قاعة المكتبة، ولم يهتم أحد بأن الشاب والفتاة غادرا المكان بعد أقل من 10 دقائق، وكأنهما كانا فى محل «آيس كريم، لا فى مكتبة ثقافية».
يواصل حمودة: «بعد 45 دقيقة، دق جرس التليفون فى مكتب الرائد ممدوح سالم» وزير الداخلية ورئيس الوزراء فى عهد السادات»، وكان وقتها ضابطا فى المباحث العامة بالإسكندرية «مباحث أمن الدولة ثم الوطنى بعد ثورة 25 يناير»، وأبلغ بأن المركز الأمريكى شبت فيه النيران، وعندما وصل إلى مكان الحادث فى شارع فؤاد، اتضح له أن النيران التهمت بعض الكتب والأرفف الخشبية، وفى اليوم التالى قدرت الخسائر بحوالى 500 جنيه، وهو مبلغ كبير كان فيه سعر الكتاب بـ10 قروش، وأحيانا بثلاثة قروش»، يؤكد حمودة: «فى بقايا الحريق عثر على جراب نظارة، الذى اتضح أنه من محل مارك أياك».
فى الليلة نفسها «14 يوليو»، ووفقا لحمودة: «فى نفس التوقيت تقريبا لكن فى القاهرة، شاهد ضابطان من شرطة الحراسات ألسنة اللهب تندلع من مكتبة المركز الثقافى الأمريكى، وبعد إخماد الحريق، عثر على جرابين هذه المرة يحتويان على مواد قابلة للاشتعال».
كان «جراب النظارة» الذى تم العثور عليه فى حادث مكتبة المركز الثقافى الأمريكى بالإسكندرية لافتا ومثيرا للانتباه عند ممدوح سالم، والسبب أن حادثا سبقه يوم 2 يوليو 1954 حيث وقع حريق فى مبنى البريد بالإسكندرية، ووفقا لحمودة، فإنه بالتفتيش والفحص الذى قاده ممدوح سالم، تم العثور على جراب نظارة يحمل اسم محل «مارك أياك».
يؤكد حمودة، أنه وبعد الحرائق الثلاث «أصبح مؤكدا أن الحرائق سياسية، وأنها بفعل منظمة سرية واحدة، ولها عقل، وتعرف قيمة العلم، وقادرة على استخدامه، كما أن لها أذرع عديدة، بحيث يمكن أن تنفذ أكثر من عملية فى أكثر من مدينة فى وقت واحد»، ويضيف حمودة، أنه عملا بنظرية «فتش عن المستفيد من الجريمة، تضاعفت الشبهات حول جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيين، فهم ضد عبدالناصر.. وبعد أسبوع واحد فقط، سقطت التهمة عن الإخوان والشيوعيين قبل أن تلبسهم، وكان ذلك بمعجزة من السماء بضربة حظ صنعتها الصدفة الحسنة».
وقعت الصدفة التى ستقود إلى فك طلاسم وألغاز هذه الحرائق يوم 23 يوليو 1954 وبالتحديد فى الساعة السابعة مساء، حيث وجد شابا يندفع من مدخل سينما ريو بالإسكندرية إلى الشارع والنار تمسك ببنطلونه والناس تحاول إطفاءها، وحسب حمودة: «لم يتردد الضابط النقيب حسن زكى المناوى، معاون مباحث قسم العطارين بالإسكندرية فى مساعدته ليقوم وينفض ملابسه ويعيد ترتيبها، وتم نقله إلى المستشفى الأميرى، ولاحظ الأطباء فى المستشفى أن جسم الشاب ملطخ بمسحوق لامع يشبه مسحوق الألومنيوم، وأن فى جراب النظارة مسحوقا مشابها». قام مفتش المباحث فى الإسكندرية المقدم محمد سمير درويش ومساعدوه بالتحقيق معه، وتبين أن اسمه «فيليب هرمان ناتاتسون» يهودى عمره 21 سنة، يعمل فى مكتب فى بورصة القطن «بورصة ميناء البصل»، واعترف عن شريكيه فيكتور ليفى وروبير داسا، وقال إن عملية سينما ريو ليست سوى عملية واحدة من عمليات عديدة لابد أن تحدث خلال ساعات أو أيام فى منشآت أخرى فى القاهرة والإسكندرية».
وقعت هذه الأحداث بعد نحو عامين من قيام ثورة 23 يوليو 1952، وتبين أن إسرائيل تقف وراءها، والسبب خوفها من احتمالات تطور العلاقة بين مصر وأمريكا، وفقا لمحمد حسنين هيكل، مضيفا فى كتابه «ملفات السويس»: أعدت المخابرات الإسرائيلية «الموساد» خطة لإساءة العلاقات بين البلدين، وأقرها ديفيد بن جوريون، رئيس الوزراء، وطلب وضعها فى شكلها التنفيذى الأخير، ويؤكد هيكل: «قبل التنفيذ ترك بن جوريون الوزارة، ولم يتورع أعوانه وبموافقته من تزوير إمضاء «بنحاس لافون» وزير الدفاع الجديد فى وزارة «موشى شاريت» على الأوامر التنفيذية للعملية، رغم أنه لا وزير الدفاع الجديد ولا رئيس وزرائه الجديد كانا يعرفان شيئا عن هذا».. يؤكد هيكل: «ظهر أن أفرادها تدربوا فى إسرائيل على عمليات التخريب».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة