"اقتربت الساعة من السادسة بتوقيت ميلانو فى إيطاليا، بدأ زوار معرض print 4all يغادرون المكان، الأنوار تنطفئ جناح تلو الآخر، وكان المشى بين أجنحة معرض تبلغ مساحته 140 ألف متر أنهكنى، وكان معى زجاجة وبعض الأوراق أبحث عن سلة مهملات لأتخلص منها، حتى أبدا رحلة البحث عن محطة المترو لشخص لا يجيد الإيطالية، وأسأل من ألقاه ببعض كلمات الانجليزية التى أستخدمها فى كل معرض حتى أرحل لمقر الإقامة."
تقدمت إلى سلة مهملات ولم أكن ألاحظ أن عامل النظافة كان يراقب خطواتى لعدة دقائق، وعندما حاولت أن ألقى الزجاجة فى مكان والورق فى مكان آخر التزاما بما يفعله الإيطاليين بتقسيم قمامتهم، حدثنى شخص باللهجة المصرية التى قلما سمعتها فى معرض تعداد زواره يتخطى الآلاف يوميا من 65دولة، وقال" حطهم فى مكان واحد يا أستاذ وأنا هتصرف".

محمد جمعة شاب مهاجر لإيطاليا
لهجة مصرية أصيلة لفتت انتباهى وإذ بى أجد نفسى أمام شاب ثلاثينى عبر البحر قبل 13 عاما بحثاً عن رغد العيش، سعدت جداً بكلامه، ودفعنى فضول "صحفى" قطع 2600 كيلو بالطائرة وتحمل ربما راتب شهرين بحثاً عن موضوع جديد يكتبه، للحديث معه عن رحلة الأهوال والموت التى مر بها، وكيف أصبح حالة، وهل ما به الآن بعد هذه المدة كان يقتضى المغامرة بعمره.
محمد جمعة صاحب ال36 عاما، قال لى كلاما لم أكن أتخيل يوماً أن أسمعه أو حتى أراه فى فيلم سينمائى، وروى لى قصصا عنه وعن زملاء له هجروا محافظة الشرقية معه قبل 13 عاما، وأصبح مصيرهم فى المجهول، "جمعة" حكى لى وكأنه لأول مرة يلتقى مصرى فى ميلانو، رغم أن مدينته الأوروبية التى عاش فيها قرابة نصف عمره مليئة بمهاجرين مصريين.
لم يكن الشاب الثلاثينى متحفظا خلال حديثه معى، فى وجود صديق آخر لى وهو الدكتور جورج نوبار عميد كلية فنون تطبيقية الأسبق بجامعة حلوان، بل تحدث بكلام هزنى داخليا، وكأنى لم أقرأ عشرات القصص عن الموت فى عرض البحر هربا للمجهول فى إيطاليا، محمد جمعة الذى تخرج فى دبلوم الصناعة، أول ما فكر فيه هو جمع مبلغ 25 ألف جنيها ليعطيه لسمسار الموت ليهربه إلى إيطاليا.
تركت له الحديث وتوقفت عن أسئلتى الكثيرة، لأنه فعلا كان متعطشا للكلام، وقال" أول حاجة فكرت فيها بعد الدبلوم هو السفر لإيطاليا وأنا عارف أن احتمالات نجاتى فى الرحلة دى صفر من مية، وكمان المبلغ اللى هدفعه كبير جداً فى الوقت دا، لكنى قررت المجازفة بعمرى وأنا مش عارف إيه مستنينى فى البحر".
انتظرت ولم أرمه بسؤال آخر، ليسترسل فى حديثه، ويقول" اتفقنا مع السمسار وركبت لنش به 250 شخصا عرضه 10 أمتار فقط، والشخص الليبى أخذ منا كل ما نملك حتى الباسبور وأعطى كل واحد منا 30 يورو، كلنا شباب وفضلنا فى البحر لمدة يومين كاملين من غير ما نعرف إحنا هننزل فين بالضبط، ولا معنا أكل إلا القليل ولا حتى سترات نجاه".
بدأت علامات التأثر تظهر على وجهه القمحى، وكذلك الدكتور جورج نوبار بدا متأثرا بالحديث، وقال الشاب جملة غريبة، أن السمسار الليبى قال لهم أثناء تحرك المركب"سامحونى انتو كدا كدا ميتيين"، ويضيف" لم نركز مع الليبى بعدما جردنا من كل شئ لكن فكرنا فى غدر موج البحر فى رحلة النجاة منها شبه مستحيل، حتى وإن نجونا من البحر فلم نعرف هل سننجو من الشرطة الإيطالية أم سيتم ترحيلنا ونخسر كل شئ".

محمد جمعة يتحدث لمحرر اليوم السابع
حاولت أن أتدخل فى حديثه وطرح بعض التساؤلات التي بدرت إلى ذهنى حينما تخيلت شكل مركب صغير به 250 شابا فى عرض بحر كثيرا ما ابتلعت أمواجه آلاف المهاجرين، لكنه باغتنى بإدخالى فصل جديد من روايته، وهو مرحلة النزول من المركب ومواجهة خطر الشرطة الإيطالية، وكيف نجا من الموت بأعجوبة وكذلك طريقة وصوله لبعض معارفه فى ميلانو.
جمعه قال ونحن مندهشون من إصراره على تذكر رحلة الموت، "المركب وصلت ليلا فى مكان لا نعرفه وجبال كثيرة، وهنا الجبال غدارة متعرفش تمشى فيها، ونزلت من المركب ولبسى على رأسى ولفيت ال 30 يورو فى كيس بلاستيك، وفعلا عرفت أوصل الشاطئ، لكن اصطدمت بالشرطة، هربت فى أماكن مزروعة ونمت على الأرض وسط الزراعات لمدة 10 ساعات متواصلة حتى ترحل الشرطة".
"مكنتش بعرف أى كلمة إيطالى ولا حتى إنجليزى وقابلت بعض المزارعين، تفاهمت معهم بالإشارة، وأعطونى ملابس وتعرفت على شخص مغربى أوصلنى بالمكان الذى أعمل به حالياً، عانيت فى شغلى 4 سنين متواصلة والمجهود والتعب كان مضاعفا".
أخذتنى أنا والدكتور جورج نوبة من السكات من شدة وحرارة وصف مشاهد سفره التى لم أتمكن من تسجيلها بالفيديو أو بالصوت بل دونتها على ورق كان بحوزتى، قبل أن يفاجئنا محمد جمعه بقوله " أغلب اللى كانو معايا على المركب معرفش وصلوا لفين لحد النهارده حتى أهاليهم ميعرفوش أماكنهم، بس الرحلة دى بتتكرر كتير جدا، وتكلفتها النهارده تخطت 150 ألف جنيه".
عرض علينا الشاب الثلاثينى أن يعزمنا على وجبة غداء أو حتى مشروب، لكنى أخذته بحديثى فى مكان آخر، وسألته عن عدد العاملين المصريين فى أرض المعارض بميلانو، ليفاجئنى بقوله" إحنا أكثر من ثلث طاقة العمل هنا، تقريبا ألفين عامل يجهزون هذه القاعات للمعارض والمؤتمرات بدءا من إقامة الأجنحة مروراً بالنظافة حتى انتهاء المعارض".
لم تكن المفاجأة الأولى أخف على أنا وصديقى جوروج من الثانية حينما قال " هناك 3 مديرين مصريين فى هذا المكان، ومعانا شخصيات مؤهلات عليا هربت بنفس الطريقة"..فقلت له "زى مين كدا هو فى حد معاه تعليم عالى ممكن يغامر بالشكل دا".. فقال لى" اللى بيدير قطاع النظافة هنا شاب خريج كلية العلوم وكان ترتيبه الرابع على دفعته لكنه هرب إلى إيطاليا للبحث عن فرصة عمل".