كانت الساعة السابعة صباح 12 يونيو «مثل هذا اليوم» عام 1882، حين شهدت دار محافظة الإسكندرية اجتماعًا، بحضور المحافظ عمر باشا لطفى وقناصل الدول الأوروبية فى الثغر وكبار ضباط الجيش، وأعضاء اللجنة التى وصلت من القاهرة الساعة الثالثة صبيحة يوم 12 يونيو برئاسة طلبة باشا عصمت، للتحقيق فى المذبحة التى شهدتها المدينة يوم 11 يونيو 1882، طبقًا لتأكيد عبدالرحمن الرافعى فى كتاب «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى» عن «دار المعارف- القاهرة».
يشرح «الرافعى» وقائع مذبحة «11 يونيو»، قائلا: «فى نحو الساعة الثانية بعد الظهر وقع شجار بين أحد المالطيين من رعايا الإنجليز وأحد الأهلين يدعى «السيد العجان»، كان المالطى هو البادئ فيه بالعدوان، فقد كان الوطنى صاحب حمار ركبه المالطى وأخذ يطوف به من صبيحة النهار متنقلًا من قهوة إلى أخرى، وانتهى طوافه إلى حانة «خمارة» قريبة من قهوة القزاز، بالقرب من محفر اللبان بآخر شارع السبع بنات، فطالبه الوطنى بأجرة ركوبه فلم يدفع له سوى قرش صاغ واحد، فجادله فى قلة القيمة، فما كان من المالطى إلا أن أشهر سكينًا طعنه به عدة طعنات دامية مات على أثرها».
يضيف «الرافعى»: «وقع هذا الحادث فى الزقاق الكائن خلف «قهوة القزاز»، فهرع رفاق القتيل إلى ذلك المكان، يريدون أن يمسكوا بالقاتل، ولكنه فر إلى أحد المنازل المجاورة، وأخذ المالطيون واليونانيون الساكنون بالقرب من مكان الحادث يطلقون النار على الأهلين من الأبواب والنوافذ، فسقط كثير منهم بين قتيل وجريح، فثارت نفوس الجماهير تطلب الانتقام لمواطنيهم، وتحركت طبقة الرعاع للاعتداء على الأوروبيين عامة، فأخذوا يهجمون على كل من يلقونه منهم فى الطرقات أوفى الدكاكين ويوسعونهم ضربًا، وكان سلاحهم فى هذه المعركة العصى والهروات، وانبث الرعاع فى المدينة يستنفرون الناس للقتال منادين: «جاى يامسلمين، جاى، بيقتلوا إخواننا»، ويقتلون من يلقونه من الأفرنج ضربًا بالعصى والهراوات، ونهبوا دكاكين شارع السبع بنات، وامتد الهياج من هذا الشارع إلى الشارع الإبراهيمى وإلى شارع الهماميل وشارع المحمودية وجهة الجمرك والمنشية وشارع الضبطية «رأس التين» وغيرها من الشوارع التى يقطنها الأوروبيون أو يمرون منها».
هرب «المالطى» إلى منزل يسكنه أحد مواطنيه، وفقًا لتأكيد الرافعى، مضيفًا أنه حين قدم المستر كوكسن بنفسه أثناء الهياج لإخراج المعتدى طبقًا لطلب رئيس قسم اللبان، أصيب بضربة حجر وعصا جرح بسببها جرحًا بليغًا، كما جرح قنصلى اليونان وإيطاليا، واختلفت تقديرات القتلى والمصابين، ويرجح الرافعى تقرير اللجنة الطبية الأوروبية لمعالجة الجرحى والتى تشكلت بقرار من قناصل الدول الأوروبية فى مصر، وأثبتت «عدد القتلى من الجانبين 49 قتيلا منهم 38 من الأجانب والباقون من الأهلين، والجرحى 36 أجانب و37 من الوطنيين، واثنان من الأتراك».
كان أحمد عرابى وزيرًا للحربية وقتئذ، ويقود الحركة الوطنية، وتلقى تلغرافا بالحادث قبل الساعة الخامسة مساء نفس اليوم، وحسب الرافعى: «قوبلت بالاستياء والاستنكار فى الدوائر الوطنية، وكانت ضربة موجهة إلى العرابيين، لأن أقل ما تدل عليه أن زمام الأمور انفلت من أيديهم»، ويؤكد «عرابى» فى مذكراته الصادرة عن «دار الكتب والوثائق القومية-القاهرة»، أن هذه الحادثة وقعت بتدبير الإنجليز لتشويه أعمالهم الوطنية ولإحداث أمر يوجب التدخل الأجنبى، وأنها وقعت بتواطؤ بين الخديو والمحافظ عمر باشا لطفى، ويتبنى هذا الرأى أيضًا الإمام محمد عبده فى مذكراته: «لاريب فى أن استقراء سير هذه الحوادث يظهر أتم الظهور أن الخديو بالاشتراك مع عمر لطفى كانا سبب الفتنة».
قررت الحكومة إيفاد لجنة مساء يوم 11 يونيو، إلى الإسكندرية للنظر فى تلك الحادثة، ويضيف الرافعى: «عقد الخديو اجتماعًا فى سراى عابدين صبيحة يوم الاثنين 12 يونيو، حضره محمد شريف باشا، ودرويش باشا المندوب العثمانى، وقناصل فرنسا وإنجلترا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا الذين جاءوا يطلبون تأمين رعاياهم على أرواحهم وأموالهم، ودعا عرابى إلى الاجتماع وخوطب فى الأمر، فأجاب بالقبول، وزاد أن تعهد للمجتمعين بمنع مامن شأنه إثارة الخواطر، كالاجتماعات العامة، وانعقاد الجمعيات، وإلقاء الخطب، ونشر المقالات المهيجة».
أما عن اجتماع الإسكندرية صباح 12 يونيو، بحضور المحافظ ولجنة القاهرة وقناصل الدول الأوروبية، فيذكر «الرافعى»، أن المجتمعين تشاوروا فى اتخاذ التدابير الفعالة لمنع وقوع الفتن، فتعهد كبار الضباط بالمحافظة على النظام، بشرط ألا يتدخل الأسطولان «الإنجليزى والفرنسى» فى الأمر، ووقع القناصل جميعًا بيانًا أعلنوا فيه ثقتهم بالجيش ونصحوا فيه رعاياهم بالتزام الهدوء ونهض يعقوب باشا وكيل وزارة الحربية، وخاطب الضباط قائلًا: «يجب عليكم أن تحافظوا على القناصل ورعاياهم مادام فى عروقكم قطرة دم».