عباس شومان

الوطن فى الإسلام

الخميس، 03 مايو 2018 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تتبنى بعض التيارات السياسية المتسترة بالدين فكرًا يقلل من أهمية المواطنة والانتماء إلى وطن محدود بحدود فاصلة عن جيرانه، بدعوى أنها مجرد حدود وهمية صنعها أعداء الأمة فى فترات تاريخية ما، ولذا فإن هذه التيارات لا ترى قدسية لهذه الحدود، ولا مانع عندهم من تحريكها أو نقلها لمصلحة ما، متذرعين بأن الأرض كلها لله وهى وطن لجميع خلقه. وهذه الفكرة تتنافى مع مبدأ القرار فى الأرض وتنميتها وعمارتها والتلاحم المجتمعى فيها، وتهدم نظام الأسرة والعائلة والقبيلة والقومية والهوية والسيادة، وكلها عناصر غاية فى الأهمية لاستقرار الأوطان والتحام أبنائها وقوة نسيجها المجتمعى والاستغلال الأمثل للموارد والثروات، كما أن هذا التوجه لا يقل خطورة عن التوجه الاستعمارى، فالاستعمار غايته السيطرة على الأرض الوطنية كلها أو بعضها استيلاءً على الثروات وتوسيعًا لدائرة النفوذ، وهو يفعل ذلك بقوة السلاح، أما أصحاب هذا التوجه فيقبلون التفريط بلا قتال!
 
ومن وجهة نظرى، فإن فَقْدَ جزء من الوطن بغلبة السلاح أشرف كثيرًا من تسليمه زهدًا فى فكرة الوطن، وتقليلًا من أهمية الحدود. والادعاء بأن الأديان لا تنظر إلى الوطن على أنه مقدس، وأنه لا علاقة بين الانتماء الوطنى والمعتقد الدينى، خطأ وافتراء محض تكذبه الشرائع السماوية وفى مقدمتها الإسلام، فالله عز وجل حين حدد أطر العلاقة فى تعاملنا مع غيرنا المختلف دينًا قرن بين الدين والديار التى تمثل الوطن فقال: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، أى إنه لا مانع من الإحسان إلى غير المسلمين والبر بهم ما لم يقاتلونا لإثنائنا عن ديننا، أو إخراجنا من أوطاننا. وحين امتدح رب العالمين المهاجرين رضوان الله عليهم ذَكَرَ أنَّ من أعمالهم العظيمة التى استحقوا من أجلها التكريم، مع سبقهم فى الإسلام، أنهم اضطروا للخروج من وطنهم مكة فرارًا بدينهم مع قسوة ذلك على نفوسهم، فقال تعالى: «للْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، وتقديم التضحية بالوطن على التضحية بالمال فيه إشارة إلى عظم المضحَّى به وشدة وقع الحدث على النفس، وهو الأمر نفسه الذى رفع شأن الأنصار، إضافة إلى عوامل أخرى، حيث أدخلوا الإسلام إلى وطنهم وأمَّنوا النبى والذين هاجروا معه فى ديارهم، قال تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا».
 
ونلمح من ذلك أن «الوطن» عنصر مهم فى التفضيل، فقد آمن المهاجرون فى وطنهم مكة قبل الأنصار، ومع شدة تعلقهم به أُخرجوا منه وتركوه من أجل دينهم فاستحقوا الفضل، والأنصار سبقوا المهاجرين فى إحلال الإيمان فى المدينة فكانت داره ومنطلق انتشاره وقوته، ثم بقبولهم إشراك إخوانهم المهاجرين فى موطنهم برهنوا على صدق إيمانهم، فمن الصعب على المرء إشراك غيره فى أرضه ومسكنه وماله، والأصعب من ذلك إيثاره على نفسه، ولذا قال الله تعالى فى شأنهم: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
 
وهناك فرق كبير بين اضطرار المهاجرين لترك وطنهم والهجرة إلى المدينة، وكذا قبول الأنصار أن يشاركهم المهاجرون فى موطنهم، وبين ما تتبناه التيارات السياسية المتسترة بالدين، فما فعله المهاجرون والأنصار ليس تقليلًا من أهمية الوطن، بل هو دليل على قوة التعلق به وحبه، ولولا أنه وحى من الله لرسوله لحكمة علمها المسلمون بعدُ، ما قبلوا الخروج من وطنهم، ولكن مصلحة الدين اقتضت، ساعتها، قبول الخروج منه اضطرارًا، وقد بيَّن ربنا شدة تعلق النفس السوية بوطنها وقسوة «الإبعاد» عنه، إذ إن الإبعاد عنه عقوبة مؤلمة وقاسية، فقال تعالى: «ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ»، وقد جاء الإبعاد عن الوطن ضمن العقوبات المنصوص عليها فى جزاء المفسدين فى الأرض المحاربين لله ورسوله، وهى أقبح جريمة كما ذكرنا فى مقالات سابقة وعقوباتها هى الأشد على الإطلاق، فقال تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ»، كما جاء الإبعاد أيضًا فى عقوبة الزانى بعد جلده كعقوبة تعزيرية زائدة على الحد وهى التغريب مدة عام، وهو ما يدل على عظم الإبعاد عن الوطن على النفس، سواء كان عقوبة أو اضطرارًا.
 
وليس أدل على ذلك من مشهد النبى، صلى الله عليه وسلم، وكلماته المعبرة عن مدى الحزن والأسى الذى يعتصر قلبه وهو يقف على مشارف مكة وقد أوشك أن يبتعد عن آخر ديارها، حيث قال: «واللهِ إنى أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت»، فهذا المشهد وهذه الكلمات تؤكد أن حب الوطن والانتماء إليه والولاء له نازع فطرى وواجب إيمانى لا يستطيع عاقل تركه أو الانفكاك عنه إلا إذا أُجبر، ولذا فقد حذرنا القرآن الكريم أن نكون مثل اليهود الذين خربوا بيوتهم بأيديهم واضطروا للخروج منها بأفعالهم حين نقضوا عهدهم مع المسلمين، قال تعالى: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الْأَبْصَار»، فالأوطان لا تُهجر ولا تُخرَّب بل تُبنى وتُعمَّر، ولا يُحمل السلاح لتدميرها وتمزيق نسيجها وتشتيت أبنائها، وإنما يُحمَل لحماية ترابها والدفاع عن حدودها، وقد عَدَّ ربنا عز وجل القتال من أجل حماية الأوطان واسترداد المغصوب منها جهاد فى سبيل الله، قال تعالى: «وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا»، وهذا النص وغيره مما ورد فى كتاب ربنا وسنة نبينا يدل دلالة واضحة على خطأ فكرة التقليل من شأن الوطن أرضًا وحدودًا بمفهوم هؤلاء. ويقوى فكرة حب الوطن ويعزز قيمة الدفاع عنه ما رُوى عن رسولنا الأكرم: «مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومَن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتل دون أرضه فهو شهيد»، والتصدى للاعتداء الداخلى والخارجى فى ذلك سواء. ومَن أراد أن يعرف قيمة الوطن الذى ينتمى إليه حقًّا، فإن عليه أن يتخيل نفسه وقد أسقطت عنه جنسيته وأصبح بلا هوية، لا جيش يحميه، ولا حكومة تضمن حقوقه، بل لا حق له فى الإقامة على أرض، ولا اعتراف بأبنائه ولا أحفاده، ساعتها سيعرف قيمة الوطن المدون فى بطاقة هويته، وسيشعر بالعزة إن كان وطنه عزيزًا بين الأوطان وبالذلة والانكسار إن كان وطنه كذلك. حمى الله وطننا الغالى مصرنا الحبيبة، وسائر بلاد العرب والمسلمين، وأبقاها عزيزة كريمة راياتها فى عنان السماء.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة