في تلك الأجواء الحارة الجافة، أستشعر فضيلة الصوم والحكمة منها وأرى في مكنونها دلالات كبيرة وعللا كثيرة على رأسها الصبر.. نعم الصبر على جفاف الريق وخواء المعدة ونقص اللوازم الرئيسية لإعاشة الجسد.. هذه الفضيلة التي نصبر عليها إلى أجل مسمى .. وقت أن يرفع المنادي صوت الأذان لينقل للصائمين فرحة الفطر.
لم أستطع وأنا أكتب هذه السطور أن أتجاهل المقارنة والتدليل بين الصبر كعبادة، والصبر كسياسية.. فالحكمة من الفضائل كلها واحدة، وإنما جُعلت السلوكيات والعبادات لتهذيب الإنسان وتدبير شئونه، وكفضيلة الصبر والصوم تأتي فضيلة التغيير.. تغيير الثقافات السائدة في مجتمعنا لاسيما فيما يتعلق منها بالاستهلاك في بلد يحاول أن يتجاوز أخطاء الماضي، ويصلح ما أفسدته سياسات العهود السابقة من تأجيل للقرارات المصيرية والحاسمة التي كان لها- لو تم اتخاذها في وقتها حسبما تقتضيه الظروف- أن تجعل الأمر يسيرًا علينا الآن.. كنا سنجني الثمار بدلا من أن نربط الحزام، ولكن هذا قدرنا أن نبني وطننا بعرقنا وصبرنا وكفاحنا وتغيير نمط ثقافتنا ونظرتنا إلى الاستهلاك في عالم متغير وسريع أشبه بالغابة لا مكان فيها لضعيف أو متكاسل.
أقول ذلك، وأنا مهموم -كرب أسرة وكشأن كل ولي أمر أو عائل أو صاحب مسئولية في وطننا الحبيب- بما يحدث، وكيف نتجاوز المرحلة، وكيف نتعايش مع الحلول التي تطرحها الدولة ويفرضها الأمر الواقع، وكيف نتعاطى الأدوية المرة دائمًا لتسلم أجسادنا ومصائرنا من الخطر ولنعبر إلى مستقبلنا آمنين مطمئنين على أنفسنا وأبنائنا وأحفادنا.
نظرت إلى نفسي وإلى غيري من المصريين، فوجدتنا نقع في أسر تلك الثقافة الشرسة ألا وهي "ثقافة الاستهلاك"، ونصر على ألا نهرب من تبعات هذه الثقافة وهي كثيرة.. فمثلا لا نزال نشتري ما لا نحتاج إليه بالضرورة من أشياء قد تكون ثانوية ولا حاجة ملحة لها، وكذلك وفي الوقت نفسه وعلى العكس تماما نستمرئ أن نحصل على السلعة بأقل من تكلفتها، وعلى الخدمة بنصف سعرها، وعلى كل ما تقدمه الدولة من خدمات بأنها حقوق مفروضة وزيادات مرفوضة!!!
وتساءلت وأنا أرى أحد معارفي وقد عاد محملا سيارته "الدفع الرباعي" بكميات كبيرة من السلع الترفيهية ثم وجدته يشكو زيادة في فاتورة الكهرباء وغلاء في سعر كذا وكذا وكذا من السلع، سألته عن صنف من السلع التي يحملها في سيارته، فقال إنه لا يسأل عن الأسعار وأنه فقط ينظر إلى إجمالي قيمة الفاتورة ليدفع للكاشير ما يطلب!!!
ورأيت كذلك الرجل الذي يشكو غلاء سعر تذكرة المترو ويستنكر أن يدفع 7 جنيهات لخط كامل يخترق 3 محافظات من المرج إلى حلوان، ولم يستطع الرجل أن يداري خجله وهو يعترف أنه يدفع للتوك توك فقط 10 جنيهات يوميا على الأقل في مسافة لا تزيد عن 500 متر ولا تتجاوز 5 دقائق في مدة الرحلة.
وتساءلت بمزيد من الأسى: كيف قبل صديقي الأول أن يدفع مبالغ طائلة في رحلة التسوق دون أن يسأل أو يتحرى أو حتى يتذمر من سعر أي سلعة ترفيهية، وكيف شعر صديقنا الثاني أن السبعة جنيهات التي يحصلها منه مترو الأنفاق ستزيد فقره بينما التوك توك لا يشعر بوخز الضمير وهو يتقاضى أكثر من هذا الرقم في مسافة ووقت لا يذكران قياسا إلى رحلة المترو من المرج إلى حلوان!!
إنها الثقافة السائدة لدينا.. فمنذ كنا صغارا ونحن نعلم – أو علمونا- أن كل ما هو حكومي مجاني أو نحصل عليه بسعر زهيد، سلعة كانت أو خدمة، ولأننا وقتها لم نكن كما نحن اليوم لا من حيث الكثافة السكانية ولا الظروف العالمية ولا خطر الإرهاب الذي يستنزف تكلفة طائلة في مواجهته ليبقى الوطن آمنا وتنام أعيننا مطمئنة، ولا مؤامرات ولا محاولات لإسقاط البلد كالتي نراها اليوم.. كنا نعتبر ذلك أمرا طبيعيا رغم أن هناك العديد من القرارات الحاسمة التي كانت حبيسة الأدراج لدواع سياسية وأمنية ومصالح لدوائر معينة من السلطة ورجال الأعمال .. هذه القرارات تم تأجيلها بينما كانت الأوجاع تزداد والجروح تتقيح، حتى إذا سقطت مراكز القوى وبدأت الدولة "تعمل على نضيف" وتبني مشروعات للمستقبل والأجيال القادمة، اصطدمت بالحقيقة المرة.. ظهرت في أدراج البيروقراطية جروح مميتة تتطلب جراحات عاجلة، وتفاقمت المشكلات المترتبة على تأجيل الحسم في قرارات مصيرية، حتى أصبحت كطبقات الصخور تحتاج إلى ديناميت، ودخلت الدولة في حرب مع أوكار الفساد وسدنة المصالح، وجاهدت على جبهة أخرى وحاربت إرهابين في آن واحد: إرهاب المتطرفين، وإرهاب الاقتصاد.. وبإذن الله حققت نصرًا مبينًا على الجبهتين.
ولكن أين المشكلة وما الحل؟
المشكلة أيها السادة أننا أمام معضلة كبرى هي ثقافتنا، والحل بالتبعية هو تغييرها وأن نتعامل مع الدولة بمنطق المظلة الحامية التي لن تريد لنا سوى الخير والتنمية والتقدم وعلى الأرض مليون شاهد ودليل.
فالمصريون الذين علموا العالم منذ فجر التاريخ أن الصبر نجاة، والعمل سلاح، والأمل فريضة، والعلم عزيمة، ليسوا أقل من غيرهم من الدول التى أنهكتها الحرب ودمرتها نيران الكراهية حتى أصبحت ركاما، لكنها لم تستسلم ولم تركن إلى الإحباط بل نهضت من كبوتها وتحمل مواطنوها ظروفا قهرية (اللهم احفظ مصرنا منها).
من ينسى صورة الشعب الألمانى المشرد فى طوابير طويلة للحصول على كسرة خبز يسد بها رمقه فى وقت عم الدمار أرجاء البلاد وهى خارجة لتوها من الحرب العالمية الثانية، وكان للضرائب التى تم فرضها على الشعب والنهضة الصناعية وزيادة الإنتاج وحزمة الإجراءات التى اتخذتها الحكومة إلى جانب الدعم الخارجى، دور كبير فى ولادة ألمانيا التى نراها اليوم ونطلق على شعبها "الماكينات".
وبالمثل كانت اليابان، لم تدفن رأسها فى الرمال بل نهضت هى الأخرى بعد أن أغلقت الباب على انكساراتها وهمومها وعملت بجد واجتهاد حتى خرجت من رحم الأزمة.. والمواطن هو كلمة السر فى التجربتين الألمانية واليابانية .. إذ أنه لا توجد حكومة أو دولة مهما بلغت قوتها يكمن أن تتقدم أو تعبر الصعاب والتحديات من دون شعب واع وطنى مخلص لا يؤمن بمبدأ الضعفاء والمحبطين القائم على "احيينى النهاردة وموتنى بكرا"!!.. فمن يكفل حياة كريمة لأبنائنا فى الغد إذن؟!.. أليست تلك أنانية؟.. ألم يجاهد أسلافنا فى الماضى وتحملوا الصعاب من أجل أن ننعم نحن بمستقبل لم يكونوا فيه؟!
دعونا نعمل فى صبر.. دعونا نغير هذه الثقافة التى أعادتنا إلى الوراء وتشدنا إلى غياهب المجهول .. دعونا نقطع الطريق على أولئك الذين يصطادون فى الماء العكر ويريدون أن يحرقوا هذا الوطن.
لا أحد ينكر أننا نعانى .. صغيرنا وكبيرنا.. فقيرنا وغنينا.. كلنا فى دائرة واحدة لأننا نعيش تحت سقف وطن واحد .. لكن الفارق كبير بين من يدرك طبيعة التحديات وبين من ينكر جهود الدولة فى توفير مظلة حماية للفقراء ومحدودى الدخل فى ظل الظروف والإجراءات الصعبة التى فرضتها ضرورة الإصلاح الذى لا نملك رفاهية تأجيله، واستطاعت الدولة أن توسع مظلة الحماية الاجتماعية بأفكار وبرامج جديدة ومتنوعة تعكس جوهر وتفرد "التجربة المصرية" فى تنفيذ سياسات الإصلاح.
إذن فما ينقصنا ليس كثيرا .. الأمر بسيط جدا .. وسأعود إلى حيث بدأت : تغيير الثقافة القديمة البالية وانتهاج ثقافة جديدة تقوم على الشراكة بين المواطن والحكومة والمجتمع المدنى .. شراكة تقوم على الإدراك والحس الوطنى وأننا لا بد أن نتحمل لنبقى .. ونصبر لنجنى.
نقلا عن الأهرام المسائى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة