ينشر "اليوم السابع" قصة قصيرة للكاتب علاء أبو زيد، تحت عنوان "ربيع السورى العاشق".
تذكرت أن صديقى السورى لم يعد له أثر فلا أحد يذكره ولم نعد نلتقى كما كان يحدث... أين ذهب؟
قبل سنوات من عام 2011 كنا نلتقى بشكل منتظم فقد عرفته فى أثناء دراستنا سويا لدبلومة الإعلام العربى.
كان صامتا أغلب الوقت لكن عيناه كانت يقظة وتثرثر طوال الوقت.
عرفت أنه سورى كردى ومع توطد العلاقة فهمت لماذا يبدو صامتا فيما تثرثر عيونه.
حضر أصدقاؤه الأكراد وشاركونا الجلوس على مقهى البورصة فى وسط البلد كان الحوار باللغة الكردية وكان صديقى لا يتوقف عن الكلام، كان يثرثر معهم بلسانه وعينيه ولما مضوا قلت له أنت ثرثار فى حقيقتك طالما تتحدث الكردية أنت صامت طالما تتحدث العربية لغتك الثانية.
لكن مع ذلك كان هناك سر وراء حزنه الكثيف عندما يجلس وحيدا.
سألته عن الإصابة التى فى كف يده
أجاب بعربية ممزقة أنها طلقات رصاص الجيش التركى ونحن نتوغل فى جنوبهم للقيام بعمليات نوعية للقوات الكردية التابعة لأوجلان.
قال لى لم يعد هناك حل لدى أسرتى من مصيرى المؤكد بالقتل غير ابعادى إلى مصر.
كان هناك أمر آخر يهدد حياتى كنا أنا ورفاقى نجتمع ليلا نعب من الخمر حتى نتوه وكنت أصعد مترنحا أعلى سطح بيتنا أسب كل الأطراف المتصارعة لا أستثنى منهم أحدا.
يسألنى صديقى بلهفة ماذا فعل المنتخب المصرى فى مباراته المصيرية فأجيبه: انتصر فتمتلئ اسارير وجهه بالفرح.
كان يعشق المنتخب السورى والمنتخب المصرى وكان يقول: المنتخب المصرى يمنحنى تعويضا عن خيبات المنتخب السورى.
كان يعتز بتجربته كمجند فى الجيش السورى ويفتخر بأنه كان معروفا كقناص محترف فى وحدته العسكرية.
ظل صديقى الكردى السورى صامتا حزينا كلما انفرد بنفسه وكان يقابلنى ثملا فى بعض الاحيان يتلعثم فوق تلعثمه ولا أتبين من حديثه المبعثر غير اسم امرأة يذكرها بنبرة فيها مزيج من الكراهية والحب.
سألته فى إحدى لقاءاتنا الليلة فى وسط البلد من هى؟ وذكرت له اسم المرأة التى تظهر فقط عندما يكون ثملا.
انطلق فى الكلام على غير العادة فلم اقاطعه:
جميلة اسمها جميلة، عربية بيضاء، ليتنى ما عرفتها لقد سحرتنى عندما فؤجئت بها تقف عند طاولتى على مقهى البورصة ثم تطلب منى أن تشاركنى الجلوس معلنة أنها تحتاج لاستراحة قصيرة قبل أن تعاود العمل. أخبرتنى أنها صحفية وأنها جاءت فى مهمة لصحيفتها التى تصدر من باريس سألتنى إن كان بإمكانى أن أساعدها فى بحثها عن شباب من وطنها يقيمون فى مصر انتظارا لتحقيق حلم الهجرة إلى فرنسا وقالت إن هذا موضوعها الذى جاءت من أجل انجازه وهى تتكلم كنت أتأمل فى ملامحها العذبة وجسدها اللين المستريح على مقعد وساقيها اللذين انكشفا بعد انسحاب جونلتها القصيرة إلى أعلى وأصابعها وتمسك بسيجارة تغمسها فى شفتين جائعتين، قالت لى: أقيم فى الزمالك ويبدو أنى تأخرت اسمح لى بالمغادرة على أن نلتقى فى الغد، وهى تغادر عرضت عليها أن تكون ضيفتى فى شقتى المفروشة القريبة من المقهى، والتى يشاركنى فيها صديقى السورى المناضل ضد استبداد حزب البعث وافقت، دخلت بها حجرتى، القى شريكى فى الشقة تحية المساء ثم دخل غرفته مغلقا بابه.
خلعت ملابسها لكى ترتدى بيجامتى الطويلة كانت تنظر بخجل وكنت انظر لها بخجل قالت أين أنام قلت هنا جوارى ابتسمت ثم تمددت وقالت هل تحبنى قبل أن نلتقى اجبتها نعم قالت أنا لك.
كل يوم نلتقى على المقهى آخر الليل ثم إلى شقتى وداخل غرفتنى تسألنى من جديد هل تحبنى وقبل أن أجيب تقول أنا لك.
لكنها اختفت ومر يوم ويومان وأسبوع وشهر وأنا كمجنون انتظر على المقهى حتى تشرق الشمس، فى هذا اليوم لم احتمل عودتى وحيدًا أوقفت تاكسى أمرته بالاتجاه إلى الزمالك وهناك وبلا سبب طلبت منه أن يدخل شارعا جانبيا دون غيره وعند عمارة قديمة وبلا سبب طلبت من سائق التاكسى أن يتوقف أمامها وأمام شقة فى أحد أدوارها وبلا سبب ضغطت على جرس الباب، هى من فتحت الباب، لم اندهش مثلما اندهشت. لم أسألها عن سر اختفاءها المفاجئ ولم تسألنى كيف وصلت لكنها اخبرتنى أنها تزوجت، ثم دخلت حجرة مغلقة وعادت برفقة شريكى فى شقتى المفروشة، لحظتها ضحكت وبكيت وشربت أنا وهى وهو ومع آخر الليل استأذنت فى المغادرة وفيما كانت جميلة تصر على أن أبيت معهما كنت اتمتم وأنا افتح الباب دون رجعة:
خونة....خونة.
صديقى لا يعمل يقضى نهاره متجولا فى الشوارع والحارات المتفرعة من باحة مسجد الحسين ولما يرهقه التجوال يختار مقهى يطل على المسجد العتيق ليستريح يقول لا أجد راحتى إلا فى هذا المكان ولا استرد ثقتى فى نفسى إلا بهذه الجولة اليومية لعلك لا تعرف أنى أؤمن بتناسخ الأرواح وأنا على يقين انا جدى الكبير كان يجلس فى هذا المكان ليستريح وأن روحه هى روحى لماذا لم تسألنى وأنا الذى لا أعمل من أين تأتينى نقودى التى انفقها بسخاء، دعنى اجيبك:
توارثنا أرضا شاسعة عن أجدادى وراء بيوت قبيلتنا المطلة على الطريق كل ما نفعله أننا ننتظر موسم سقوط الأمطار وقبل أن تنهمر بغزارة يقوم شباب القبيلة برش بذور الكمون فى المساحات الشاسعة ثم لا نفعل شيئا غير انتظار النبات حتى تمتلئ الزهور بالحبوب وعندها يكون الحصاد ويكون الثراء للجميع ولا يخلف أشقائى بوعدهم حيث يصلنى نصيبى من الثروة وأنا هنا فى القاهرة، لقد كان شرطهم الوحيد ألا أعود وكان شرطى الوحيد تدفق نصيبى من نقود الكمون وها أنا أقيم هنا ولن أعود.
كان صوته حزينا وراضيا وهو يواصل حديثه:
لدى يقين أن جدى الكبير كان ينقل بضاعته من حصاد الكمون على قافلة من الجمال مخترقا ساحل المتوسط مارا بلبنان ثم فلسطين وصولا إلى شمال سيناء مختتما رحلته الطويلة هنا فى رحاب الحسين مقيما فى إحدى حاراته منتظرًا لموسم الامطار لتبدأ الرحلة من جديد.
وحدث ما اتفقنا عليه.التقينا على مقهى البورصة لكى يصحبنى إلى حفل زفاف إحدى زميلاتى فى العمل، كان يبدو منتشيا بدعوتى قال أنا مهيأ لقصة حب جديدة.
غادرنا مقهى البورصة اخترقنا شارع الشريفين سرنا بمحاذاة فندق كوزموبولتان وصلنا إلى ناصية مزدحمة ليتركنى صديقى متجها إلى لاشئ ثم يعود ولما سألته رأيتك تتحدث مع نفسك رد مبتسما لم يكن حديثى مع نفسى كان مع العجوز ذى اللحية البيضاء والشعر الأبيض والجلباب الأبيض لقد اخبرنى أننى فى طريقى لمن أحب وأنا أصدقه فهو الذى قال لى من قبل عندما طال اختفاء جميلة أنت تعرف مكانها استفت قلبك أذهب إليها ستصل. ها نحن نقترب من مبنى نقابة الصحفيين حشود من قوات الأمن المركزى تطوق مظاهرة على سلم النقابة، منفذ صغير على جانب المبنى يسمح بالخروج ولا يسمح بالدخول، على الرصيف المقابل مجموعة من الضباط برتب متصاعدة تراقب المظاهرة بفتور، يجلس الكبار على كراسى ويقف الآخرون، الشارع مفتوح لعبور السيارات والمشاة .
فى حفل زفاف زميلتى لاحظت أنه يبدو شاردا تتبعت عيناه وجدتها تتحرك حيث تتحرك زميلة أخرى جاءت لتهنئ صديقتها وعندما رأتنى اتجهت لتصافحنى وقبل أن أمد يدى كان صديقى يمد يده ليدها، ظلت يده ممدوة حتى أفاقت زميلتى من دهشتها فمدت يدها وصافحته.
ونحن نغادر بدأ يثرثر على غير عادته كان يسألنى ويجيب :
أنت تعرفها؟ أنها زميلتك فى العمل هل تتحدث معها؟ بالتأكيد طبيعة العمل تسمح بذلك، كيف تحتمل سحرها وهى تحدثك أو تجلس معك فى مكان واحد؟ أنت من الواضح لا تفكر إلا فى العمل، أخبرتنى أنها متزوجة؟ أنا لا يعنينى ذلك يكفينى أن أحبها من بعيد، قل لى متى أجازتها؟
ولما اخبرته قال وكأنه يصدر قرارًا إداريًا سوف ازورك فى هذا اليوم.
زارنى فى هذا اليوم سأل عن مكتبها جلس على مقعدها اغمض عينيه وظل وقتا طويلا منفصلا عن العالم لا يتكلم ولا يرد على كلام أحد.
لما سافرت خارج مصر السنوات التى تسبق 2011 انقطعت علاقتى به ولما عدت تذكرته ولما يئست من العثور عليه تذكرت الرجل الأبيض ذهبت إلى حيث كان يلتقيه صديقى فلم أجده كنت أعرف أنه من خيال صديقى لكن وأنا أغادر رأيته من بعيد قادمًا بجلبابه الأبيض ولحيته البيضاء وشعره الأبيض سألته أين صديقى؟
أجاب متوقعا سؤالى:
إنه يحب، لا تتعجلوا عودته .قد تطول الرحلة، انصحك بالبحث عنه فى حارات الحسين، ليس الآن بعد سنوات فوق سنوات غيابه ستجده شابًا صغيرًا يثرثر فقط مع اقرانه السوريين الأكراد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة