«أنتم الذين غالبًا ما تكلمت معكم من أجل فرنسا، اعلموا أن ردكم الأحد، يوم الاستفتاء سيؤثر فى مصيرها.. ستصبح مهمتى الحالية مستحيلة بالتأكيد وسأتوقف على الفور عن ممارسة مهامى».
هكذا تحدث الرئيس الفرنسى شارل ديجول، يوم 25 إبريل 1969، منبهًا الفرنسيين إلى أهمية نتيجة استفتاء يوم 27 إبريل حول مسألة اللامركزية، وإعادة تنظيم مجلس الشيوخ»، ومحذرًا من أنه فى حال عدم حصوله على الأغلبية سيترك منصبه، وحسب جريدة «الحياة- لندن- 13 يناير 1999»: «كان ديجول يتوقع نتيجة الاستفتاء وعبر فى جلساته الخاصة عن شعوره، بأن كل شىء انتهى بالنسبة إليه وأن فرنسا باتت أمام فصل جديد من تاريخها».
جاء الاستفتاء بعد ثورة الطلبة الفرنسيين يوم 2 مايو 1968، وتواصلت ثمانية أسابيع، وانضم إليها باقى فئات الشعب، فطرح ديجول إصلاحات، فى محاولة أخيرة لعلاج الأوضاع المتأزمة، وفى كتاب «قصة الإليزيه» والمنشور على حلقات بجريدة «البيان الإماراتية» «21 نوفمبر 2007» عرض وتقديم محمد مخلوف، يتتبع مؤلفه «فرانسوا دورسيفال» دراما الأسابيع الأخيرة فى حكم هذا الزعيم التاريخى لفرنسا، الذى قاد المقاومة ضد الاحتلال النازى لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، بإطلاق ندائه من لندن فى يونيه 1940: «أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة، لكننا لم نخسر الحرب، وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نيران الاحتلال».
ظهرت نتيجة الاستفتاء يوم 28 إبريل مثل هذا اليوم 1969: %41.52، قالوا: لا، وبهذه النتيجة ترقب العالم قرار ديجول، وبعد عشر دقائق من منتصف الليل، صدر بيان موجز من سطرين سمعه الفرنسيون بصوت ديجول: «أعلن توقفى عن ممارسة مهامى رئيسا للجمهورية.يصبح هذا القرار نافذا عن ظهر اليوم:29 إبريل 1969».
نفذ «ديجول» تهديده بالاستقالة، وتمت وسط دراما عاشها فى «الإليزيه»، فحسب رواية «دورسيفال»: «أدرك من خلال ردود الأفعال على اقتراح الاستفتاء العام أنه أخطأ الهدف، وذلك بعد أن لاحظ الحالة التى بدا عليها مساعدوه، قال لمستشاره جاك فوكار: «كان كل منهم يريد المساومة وقد أحاط نفسه بأساتذة ورؤساء جامعات ومستشارين من كل نوع، كانوا يريدون فى الواقع استمرار الحال على ما هو عليه، والنتيجة هى كما ترى، انفجر كل شىء فجأة لأنه ليس لدى رجال دولة وليس لدى حكومة»، وقال لوزير ماليته ميشيل دوبريه: «لا أتمنى أن يحظى الاستفتاء بموافقة أغلبية الفرنسيين، ذلك أن فرنسا والعالم فى وضع لم يعد هناك ما يمكن فعله حياله، وأمام الشهيات المفتوحة والتطلعات وأمام واقع أن جميع المجتمعات غير راضية عن نفسها لا يمكن فعل أى شىء، إن العالم كله مثل نهر لا يريد لمجراه أن يواجه أى عقبة، ولم يعد لى ما أفعله وبالتالى علىَّ أن أرحل، ومن أجل أن أرحل ليس أمامى أية صبغة سوى أن أجعل الشعب الفرنسى يقرر بنفسه مصيره».
يكشف مؤلف «قصة الإليزيه» عن لقاء مؤثر على مائدة الطعام بين ديجول وزوجته وولدهما الضابط فيليب الذى قال: «لاحظت البرود على الرسميين الذين قابلتهم عند مدخل الإليزيه، بل وقد أشاحوا بنظرهم عنى، وقد أخبرنى البعض أن بعض الوزراء والموظفين الكبار أو حتى مستشارى الرئيس قد تركوا مراكزهم، ولم يعد الاتصال بهم ممكنا حتى بواسطة الهاتف».
انفرد ديجول بالابن بعد تناول الطعام ولم يعرف أحد ما دار بينهما، لكن الابن قال فيما بعد فى مذكراته عن أبيه إنه قال له: «لم تعد لى سلطة على أحد، لقد فقدت عمليًا السيطرة على الحكومة، بومبيدو «رئيس الوزراء» يترك الأمور تتعفن، فإلى متى؟ ويقول الابن فيليب، إنه أثار أباه عن قصد عندما قال له: «ينبغى أن تدرك أن حكمك قد انتهى وأن الفرنسيين لم يعودوا يريدونك». بعد استقالته بثلاثة أيام، تحدث عنه جمال عبدالناصر فى خطابه فى عيد العمال «1 مايو 1969»، قائلًا: «الجنرال ديجول تفهم قضيتنا، وصمم على أن يقف ضد العدوان «5 يونيو 1967»، وصمم على أن يقف مع المبادئ، وصمم على أن المعتدى يجب أن ينسحب من جميع الأراضى المحتلة، وكان هذا مكسبًا لنا، ونحن على ثقة فى استمرار موقف فرنسا من العرب، والشعب الفرنسى رفع لواء الثورة فى يوم من الأيام، ورفع هذه المبادئ العظيمة فى يوم من الأيام، وحينما كان الجنرال ديجول فعلًا يتخذ هذا الموقف، كنا نشعر فعلًا أنه ينفذ الأهداف التى نادت بها الثورة الفرنسية».
انسحب «ديجول» نهائيًا، وذهب إلى داره فى «كولومبيه لى دوزيغلير»، ومضى سنته الأخيرة حيث توفى يوم 9 أكتوبر 1970.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة