فى 17 إبريل الماضى خرج رئيس حزب الحركة القومية التركية "دولت بهلشى" علينا بدعوى تبكير الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة فى نوفمبر 2019 والتى حددت وفقا لتعديلات دستورية، أقرت فى العام الماضى عبر استفتاء مثير للجدل خرجت نتيجته لصالح تمرير التعديلات الدستورية بشق الأنفس.
يبدو لنا أن هذه الدعوة ليست اعتباطية أو وليدة اللحظة فمنذ بداية العام هناك تدهور كبير للاقتصاد التركى والحكومة التركية خاضت معارك دبلوماسية ومعركة غصن الزيتون مع بداية العام مما ألقى بظلاله على الاقتصاد التركى وعلاقاتها الدولية، وجعل أنقرة تفقد تصنيفها الائتمانى من المؤسسات الاقتصادية الدولية، وأنه أيضا فى سياق توزيع الأدوار بين الحركة القومية الذى ضعف شعبيته فى انتخابات نوفمبر 2015 والعدالة والتنمية اللذان بنيا تحالفا قويا فى البرلمان واستفتاء العام الماضى الذى أنتج عنها التعديلات الدستورية التى أفرزت المسار الحالى للانتخابات.
وكان إقرار البرلمان التركى لحزمة لتنظيم قوانين الانتخابات تعطى صلاحيات كبرى للهيئة العليا للانتخابات تصفها المعارضة التركية أنها تشرعن للتزوير وتخدم على أهداف حزب العدالة والتنمية وترسخ بقاءه فى الحكم خمسة عشر عاما جديدا. مغامرة أم خطوة مدروسة ؟ الرئيس التركى الذى ظل 40 عاما يمتهن السياسة ويعرف خباياها وقضى أكثر من نصف قرن يتنقل بين المناصب السياسية داخل الهيكل السياسى فى الدولة التركية بدءا من عمدة أسطنبول فى التسعينيات حتى وصوله إلى منصب رئيس الجمهورية، فهو ليس غير عاقل لكى يقدم على هذه الخطوة المتهورة والتى تشبه لعبة القمار فهو يقامر بكل تاريخه السياسى والحزبى فى الانتخابات القادمة. وعلى الرغم من المباغتة السياسية للداخل والخارج التركى بإعلان الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد 70 يوما فقط من الآن فيبدو أمامنا أردوغان استعد جيدا سرا منذ شهور أو تحديدا بعد انتصار عفرين الأخير الذى حدث قبل شهر من مبادرة دولت بهلشى، والتى دعت لتبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتى تعد مصيرية وسترسم مستقبل تركيا وتنعكس على الإقليم لسنوات قادمة، ومافعله دولت بهلشى هو توزيع للأدوار يين العدالة والتنمية والقوميين الأتراك لكى لا تظهر الرئاسة التركية أو حزب العدالة والتنمية هو صاحب المبادرة لتبكير الانتخابات خاصة أنها دعوة قديمة جديدة دعى اليها بعد انتهاء استفتاء ابريل 2017 ولكن الرئيس التركى رفضها بكل صراحة فى نوفمبر من العام الماضى قائلا من يدعو إلى تبكير الانتخابات هو خائن للوطن ولكن كل شيء تبدل تماما الآن.
المغامرة الأردوغانية هذه المرة قد تقذف به هو وحزبه إلى الهاوية أو بالأحرى خارج السلطة تماما على عكس ما يصبو إليه، فنحن أمام سيناريو خطير أن حدث خاصة أن الرئيس التركى هندس النظام التركى على مقاسه من خلال الصلاحيات الدستورية الجديدة والتى حولت النظام السياسى التركى من برلمانى إلى رئاسى، وطالما حلم بتولى منصب الرئيس وهو بهذه الصلاحيات. السيناريو الأول: أن يفوز الرئيس التركى بالانتخابات الرئاسية ويخسر العدالة والتنمية الأغلبية فى البرلمان، وهنا ستعطل مشاريع وأحلام الرئيس التركى الذى يخطط للبقاء فى الحكم لدورتين تنتهى فى 2028.
وعلى الرغم من أن صلاحيات البرلمان التركى أصبحت صورية ومحطة تمر بها السلطة التنفيذية دون عناء بعد الغاء حق البرلمان التركى من استجواب الوزراء وحجب الثقة عنه، هذا السيناريو يطل بظلاله على المشهد التركى كما طل فى صيف 2015 عندما حصل العدالة والتنمية على 41 بالمائة من الأصوات وخسر الأغلبية البرلمانية واضطر العدالة والتنمية إلى الدعوة للانتخابات مبكرة فاز بها الحزب فى النهاية.
السيناريو الثاني: أن يخسر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الانتخابات أمام منافس قوى ويفسد عليه طبخته السياسية وسيناريو المرسوم له الانتخابات، إنها نزهة للرئيس التركى وأن نتيجة مقعد الرئاسة محسومة سلفا ولكن نحن أمام معارضة تركية فى حالة معاناة من تضييق الحزب الحاكم خاصة فى ظل حالة الطوارئ وهى مفروضة منذ أغسطس 2016 ولكن هذه المعارضة ليست ضعيفة وهى فى خندق مقاومة سياسات الرئيس التركى وحزبه خاصة أنها آخر فرصة للمعارضة التركية لهزيمة حالة الأردوغانية السياسية التى يشكلها أو بناها الرئيس التركى على مدار العقود الماضية وهى تشبه بل أصبحت أقوى من حالة الأتاتوركية وهو مؤسس الدولة التركية وأردوغان ينطاح تاريخيه فى كل شيء.
ترشح ميرال اكشنار أو المرأة الحديدة رئيس حزب الخير التركى المؤسس حديثا سياسية تركية وقومية التوجه وشغلت منصب وزير الداخلية فى التسعينيات من القرن الماضى المباغتة السياسية التى صنعها أردوغان بتعجيل الانتخابات لم تهز المرأة الحديدية على الرغم أن حزبها استبعد من الانتخابات بسبب حداثة عهده فى السياسة التركية فلم يمر على تأسيسه 6 اشهر على الاقل لذلك ستلجأ لخيار جمع توقيع 100 الف ناخب لنزولها الانتخابات كمرشح مستقل وفق لقانون الانتخابات الرئاسية وتعتبر حظوظها كبيرة فى منافسة الرئيس التركى وجذب اصوات القوميين والاتاتوركين وانصار الحفاظ عن الإرث التاتوركى.
ترشح الرئيس السابق عبد الله جول ورفيق درب الرئيس رجب طيب اردوغان والذى وجه له وابلا من الانتقادات خلال الفترة الماضية وتحفظ على أسلوب إدارة الرئيس التركى للبلاد خاصة بعد الانقلاب الفاشل ومن قبل فى ملفات السياسة الخارجية خاصة فى قطع العلاقات مع مصر بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسى وأيضا التعامل مع حركة الخدمة وأنصار فتح الله جولن واتساع نطاق المظلومية السياسية فى تركيا وكانت ذروة هذه الانتقادات وهى انتقاده لقانون حماية وتحصين من شاركوا فى صد المحاولة الانقلابية وهو قانون مشبوه ومثير للجدل، ومن الممكن أن يترشح جول على قائمة حزب الشعب الجمهورى والذى يقوده كلجدار أوغلوا وقد لوح بذلك فى أكثر من مناسبة ولو ترشح عبد الله جول للانتخابات الرئاسية سيعطيها زخما كبيرا وسيعد انقلابا على أردوغان نفسه فعبد الله جول سيكون معولا على الحرس القديم من حزب العدالة والتنمية مثل عبد الله باباجان وبولنت ارينتش وارشاد هولومزلو والرئيس التركى مازال لديه شعبية فى الشرع التركى ولدى المواطن التركى غير المسيس ويمكن القول أن ترشح سيربك كل خطط الرئيس التركى وحزبه خاصة أن عبد الله جول كان اول رئيس للحزب وايضا اول رئيس وزراء فى تاريخ الحزب فى عام 2002 وكان وقتها رجب طيب اردوغان يقضى عقوبة سجن فى ذلك الوقت.
ثانيا: انتخابات مبكرة قبل انهيار الشعبية
الرئيس التركى قناص سياسى وخير من ينتهز الفرص فهو يتمتع بانتهازية سياسية كبيرة لذلك الرئيس التركى وحزبه لديه اسبابه جعلته يعجل بالانتخابات البرلمانية والرئاسية
1 -استثمارا لنتائج عمليات الجيش التركى فى عفرين واستطاع أن يعيد للجيش التركى هيبته التى أهدرت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة فى يوليو 2016.
2 -البحث عن شرعية جديدة عبر صناديق الاقتراع بعد انتهاء صلاحية شرعية ما بعد المحاولة الانقلابية.
3 - الانتخابات هى بمثابة طوق نجاه لما يعانيه الاقتصاد التركى من نزيف اقتصادى وانهيار الليرة التركية وهبوطها لأدنى مستوى لها فى تاريخها أمام الدولار الأمريكى فإجراء الانتخابات فى هذا التوقيت وتبكيره عن مقترح دولت بهلشى الذى اقترحه فى أغسطس من هذا العام إلى يونيو لكى تتحلل أو تتهرب الحكومة من مسئوليات الاقتصادية
4 - أيضا تعزيز الشرعية داخليا سينطبع على علاقات تركيا الدولية المتأزمة من الاساس مع الغرب والولايات المتحدة وإدارة الرئيس ترامب الذى غرد عن انتهاكات حقوق الانسان فى تركيا وانتقاد الخارجية الأمريكية لإجراء الانتخابات تحت حالة الطوارئ وأيضا صفقة اس 400 الروسية المنتقدة غربيا وأمريكيا واستمرار دعم الولايات المتحدة للكرد فى الشمال السورى وهو ما يؤثر سلبا على الامن القومى التركى، وبقاء العلاقات الاوروبية التركية كماهى محلك سر لا جديد فلا تركيا ستدخل إلى الاتحاد الأوروبى ولا اوروبا ستتنازل وتعطى امتيازات لنظام سياسى ينحرف يوما بعد الاخر عن القيم الديمقراطية.
5-مباغتة لخصوم الرئيس التركى فى الاقليم خاصة بعد أن اشتبكت تركيا فى اكثر من بؤرة متوترة فى اقليم الشرق الاوسط مثل الازمة الخليجية والانحياز لقطر على حساب بقية الدول الخليجية وايضا مازال الخلاف مستمرا مع مصر وتعمق اكثر بعد أن بسطت تركيا سيطرتها على جزيرة سواكن السودانية وهو ما فسر على انه مكايدة للقاهرة، إضافة لرغبة الرئيس التركى فى الحفاظ على الدور التركى فى كل من سوريا والعراق وما تقوم به من جهد فى هذين الملفين الشائكين.
يمكن القول إن الرئيس التركى استبق حالة التدهور فى الاقتصاد التركى ورغب فى امتصاص الغضبة الغربية على تركيا بهذه الانتخابات والاستفتاء على شعبيته وشعبيته حزبه ومباغته خصومه فى الداخل والخارج املا تعزيز حكمه والبدء الفورى تطبيق احكام الدستور التركى الذى يكسبه صلاحيات واسعة.
ثالثا: ماذا الذى يخشى منه أردوغان؟
تعتبر هذه الانتخابات هى الدرع الواقعية والحامية للرئيس التركى ونظامه من سيل الانتقادات الغربية والامريكية لتدهور وضع حقوق الانسان فى تركيا وتتركز مخاوف الرئيس التركى من الانتخابات القادمة.
1-العمليات الإرهابية والتى تقوض استقرار تركيا وقد تحدث عبر الجماعات الكردية المتطرفة مثل صقور كردستان وهى فرع متشدد من حزب العمال الكردستانى خاصة فى ظل اعتقال رئيس حزب الشعوب الكردى مصطفى ديمرتاش منذ اكثر من عام وأيضا طرد النواب الاكراد من البرلمان التركى تحت ذريعة دعم الارهاب، او العمليات الارهابية من قبل تنظيم الدولة (داعش) والذى استوطن داخل تركيا ونفذ عمليات من قبل داخلها.
2 -التصويت العقابى من قبل الناخب التركى ولا ننسى مظاهرات جيزى بارك التى حدثت فى مايو 2013 قبل 5 سنوات والتى شهدت اكبر عملية احتجاجية ضد حزب العدالة والتنمية وتجلى التصويت العقابى ايضا فى استفتاء الدستور العام الماضى فكانت نتيجة الاستفتاء متقاربة للغاية مما ادى إلى خسارة الحزب إلى المدن الكبرى مثل انقرة واسطنبول العاصمة السياسية والاقتصادية للبلاد او الغضب من حالة عدم اليقين فى الملف الاقتصادى ومحو الملامح والقيم العلمانية الاتاتوركية للجمهورية التركية والضيق من اللاجئين وارتفاع نبرة داخلية لإعادتهم لبلادهم بالإضافة للفشل فى بناء سياسة خارجية متزنة نددت بها المعارضة اكثر من مرة اثرت سلبا على سمعة تركيا الدولية
3 -عدم وحدة قواعد حزب العدالة والتنمية بمعنى أن لا يدعم عدد من قواعد حزب العدالة والتنمية الرئيس التركى فى الانتخابات او الكوادر السياسية التى ستترشح فى الانتخابات القادمة وهذا حدث فى استفتاء العام الماضى، خاصة أن الكوادر السياسية فى الحزب كانت تعول على اجراء انتخابات المحليات والتى مقررة فى مارس 2019 لتعزيز وجوده داخل الحزب فجاءت الانتخابات المبكرة لتقلب الأمور رأسا على عقب
4 -التدخل الغربى فى الانتخابات أو توفير المال السياسى للمعارضة عبر الإغداق عليها والتى ليس لديها سوى 70 يوما للاستعداد الانتخابات بهدف الحاق هزيمة نكراء بحزب العدالة والتنمية نظرا للغضب الغربى من القيادة التركية الحالية فى ملفات عدة وهو سوف سيتحدث عنه أردوغان مع بداية الحملات الانتخابية.
الخلاصة: تركيا مقبلة على منحى تاريخى من خلال انتخابات ترسم مستقبل البلاد ويؤسس لنظام سياسى جديد يتحلل من الإرث الأتاتوركى ويصنع دولة بديلة عنها وتبقى تركيا حائرة بين مسارين إما تتقدم بخطى ثابتة بتوافق بين الجميع أو تسير نحو ديكتاتورية مدنية جاءت عبر آليات ديمقراطية وهذا سيكون اسوأ ما مر بتركيا خلال المائة عام الماضية.
* باحث فى الشئون التركية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة