ركب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين السيارة وبجواره زوجته السيدة سوزان متجهين إلى دار مجمع اللغة العربية، لحضور حفل تأبين أستاذه وصديقه أحمد لطفى السيد الذى توفى يوم 5 مارس 1963 «ولد فى 15 يناير 1872»، استدعى «حسين» فى طريقه من منزله، ذكريات سنوات طويلة عاشها مع الفقيد، ودار حولها حوار رفيعا مع زوجته، وكان ذلك يوم 21 إبريل «مثل هذا اليوم عام 1963»، حسبا يؤكد الدكتور محمد حسن الزيات فى كتابه «ما بعد الأيام» عن «دار الهلال - القاهرة».
كان «السيد» رئيسا للمجمع، وطه حسين نائبا، وجمعتهما المعركة التى شهدتها الجامعة المصرية، حين قرر وزير المعارف حلمى عيسى باشا إعفاء «حسين» من عمادة كلية الآداب ونقله مفتشا إلى وزارة المعارف يوم 3 مارس 1932، فقدم السيد استقالته من منصبه مديرا للجامعة يوم 9 مارس 1932 احتجاجا، وقبل هذا بسنوات كان تأثير «السيد» بالغا فى حياة «حسين»، ففى سيرته «الأيام» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة» يذكر أنه عرف فى مكتبه فى «الجريدة» كثيرون من الشيوخ والشباب، و«اتصل برفاق له أحباء عمل معهم فيما بعد، عرف عنده محمد حسين هيكل، ومحمود عزمى والسيد كامل، وكامل البندارى، وأترابا لهم كثيرون، وعرف بفضله لونا من المعرفة لم يكن يقدر أنه سيتاح له فى يوم من الأيام، فقد لقى عنده ذات يوم تلك الفتاة التى كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جملية فاتنة، ولا لأنها كانت جذابة خلابة، ولكن لأنها كانت طامحة ملحة فى الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها، وهى نبوية موسى».
أما سيل الذكريات التى اجترها مع زوجته يوم 21 إبريل 1963 فكانت حسب نص الزيات.. يقول طه حسين: «عرفته وأنا فى سن الثامنة عشرة، هى إذن صداقة دامت أكثر من نصف قرن».. ترد سوزان: «وعرفته أنا معك منذ حضورنا إلى مصر، مدة تجازوت الأربعين عاما، وتبدو لى الآن أكثر من ذلك، أن عمر الصداقة لايقاس بمرور السنين».
يكشف حسين: «هو الذى حدثنى لأول مرة عن أوروبا، هو الذى ذكر لى أسماء لم أكن قد سمعت بها من قبل، فولتير، جان جاك روسو، ديدرو، مونتسكيو». ترد سوزان: «ومع ذلك كان مصريا صميما.. تذكر لهجته»، ويرد حسين: «نعم كان يحب أن يحتفظ بلهجة إقليم الشرقية، ويتبارى فى ذلك مع صديقنا الأستاذ مصطفى عبدالرازق» أستاذ الفلسفة الإسلامية وشيخ الأزهر وتوفى 15 فبراير 1947 «ومعى، ونحن نتحدث بلهجتنا الصعيدية»، تقول سوزان: «كانا أخوين بالنسبة لك». يرد حسين: «كان لطفى أبا وأخا، كان يحدثنا عن السياسة المصرية والسياسة العالمية فى غير تكلف، منه سمعت ألفاظ الديمقراطية والارستقراطية، وحكم الفرد وحكم الجماعة وآراء الفلاسفة، وكنا نقرأ فى مقالاته أن الأمة فوق كل مقام».
تلتقط سوزان الكلمة الأخيرة»، وتسأل: «فوق كل مقام؟، ألم يكن ذلك حديثا شديد الجرأة فى تلك الأيام»؟، فيجيب زوجها: «نعم، كان يقول أن الحكام ليسوا فى حقيقة الأمر إلا خداما أجراء للشعب، يخدمونه ويأخذون منه أجرهم.. وتسأل سوزان: «ألم تذكر لى أن صاحبك أبا العلاء المعرى قال شيئا مثل هذا؟، يرد: «نعم، قال أبوالعلاء عن بعض الحكام الجائرين»: «ظلموا الرعية واستجازوا كيدها/ وعدوا مصالحها وهم أجراؤها»، على أن لطفى السيد هو نفسه الذى حببنى إلى أبى العلاء، وأسعدنى جدا رضاؤه عن الرسالة التى كتبتها عن أبى العلاء، وقدمتها للحصول على الدكتوراة من مصر».. ترد سوزان: «كذلك أذكر أنك لم تقدم رسالتك عن ابن خلدون إلى جامعة السوربون، إلا بعد أن أرسلتها من باريس إليه فى القاهرة فقرأها واستحسنها».
وصلا الاثنان إلى «المجمع»، ووفقا للزيات: «ألقى كلمة وأنهاها قائلا: فقدت كثيرا من الأحباء الأعزاء على، فوجدت ما يجد الإنسان من اللوعة والأسى، ولكنى لم أجد قط مثل ما أجد الآن، بعد أن فقدت هذا الأب الرحيم والصديق الحميم، ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال: «ليس على طول الحياة ندم/ ومن وراء المرء ما يعلم/ يموت والد، ويخلف مولود/ وكل ذى أب ييتم».
ينصرف الأعضاء، وحسب الزيات، يقول الدكتور إبراهيم بيومى مدكور لطه حسين: «كان عسيرا علينا حبس الدموع. هذا لطفى باشا قد تركنا. الله المسؤول أن يبارك لنا فى عمرك»، ويضيف الزيات: «بعد خمسة شهور، وفى فندق صغير فى قرية «كولى ايزاركو» بإيطاليا سبتمبر 1963 يقرأ سكرتير طه حسين عليه البريد والصحف المصرية: «صدر قرار رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر بتعيينكم رئيسا لمجمع اللغة العربية»، يعلق طه حسين: «يرحم الله لطفى السيد، ما أظن خسارة المجمع بوفاته يمكن أن تعوض، على أن العمل ينبغى أن يستمر».