إيمان رفعت المحجوب

هل نضحى بـ "تحويشة العمر"؟

الثلاثاء، 10 أبريل 2018 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل من الممكن أن نضحى بتحويشة العمر ونكون كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا؟
إذا حالفك الحظ، ومررت بكورنيش النيل بجاردن سيتى فى ساعةٍ مبكرة جداً من الصباح، كما تدفعنى ظروف عملى بقصر العينى أحياناً لأن أفعل، ستبدو لك ملامح الشارع بأشجاره العتيقة المعمرة ومنظر النهر الهادئ العجوز، والأسوار الحديدية التى أحاطت ضفتيه، كأنما تحرسه، وهى تزينه بزخرفها ونقوشها التى أبدعتها يد الفنان المصرى.
 
سيبدو لك المشهد وكأنك فى أوروبا بجمال المكان وهدوئه. وقتها، ويكاد المكان أن يكون خاوياً إلا من قليلٍ من السيارات تشق السكون بين دقيقةٍ وأخرى؛ سيكون بإمكانك أن ترى أيضاً ما بين الفندقين الشاهقين الشهيرين مبنىّ قصر العينى القديم والجديد، ترى هذا الصرح الطبى العريق مشرقاً بقبته وروعة تصاميمه، يشهد على عظمة الأجداد، وكأن المكان كله لوحةٌ بديعةٌ أبدعتها يد فنانٍ مبدع، إنه حقاً منظرٌ يساوى عمراً لا يقل روعةً ولا جمالاً ولا بهاءً عن أحياء پاريس، ولكن للأسف سرعان ما يحل الزحام فيَفْسَد كل شىء ويتبدد!
 
نفس الإحساس يراودك إذا ما تصادف ومررت فى نفس الميعاد على الضفة المقابلة من النهر، وتجولت بمربع الجامعة وحديقة الحيوان وحديقة الأورمان أجمل ضواحى القاهرة الكبرى! صدقونى أنها مازالت على روعتها وبهائها القديم، فالنيل هو النيل، والبنايات الشاهقة العتيقة مازالت على عظمتها لا يشوهها إلا الزحام، وتشهد الحدائق بأسوارها العملاقة، وأشجارها العالية طوال محيطها الضخم للخديوى برفعة ذوقه وأدائه، وكذلك حى الزمالك والشوارع والقصور والڤيلات والبنايات القديمة برقى أذواقها ومعمارها، وكأنها بنيت يوم أمس، وحديقة الأسماك والنادى العتيق وبرج القاهرة ودار الأوبرا وشارع أبو الفدا، كلها وقد زادتها الأيام والسنون شموخاً ووقاراً، لا يعكر صفوها إلا الزحام!.
 
القاهرة جميلة إلا من اللانظام والعشوائية التى غلبت على السلوك وعلى الطابع العام؛ المشكلة أن تجد تزايد العشوائيات التى تتخللها وتحيطها من كل جانب يوماً بعد يوم دون أن يلتفت لذلك أحد، الزحام وغزو وسائل المواصلات البدائية كلها لا تليق بقاهرة المعز، بنيلها وجامعاتها وحضارتها، حتى الشوارع القديمة التى أحسن تخطيطها لم تسلم من يد العبث وإضفاء العشوائية مؤخراً، فتشوهت بتقسيمها أو غلقها بالحجارة بمنظر فى منتهى القبح، غير ما تعرضت له الأحياء الراقية من غزو الكبارى التى ركبت على المبانى، وزاد على ذلك إحلال ناطحات السحاب محل الفيلات والقصور التى كان من الأولى ضمها لمتاحف وزارة الثقافة لقيمتها الفنية والتاريخية!
 
ارفعوا كل هذا القبح وامنعوا المزيد منه تجدون مدينة أخرى جميلة، تلك هى مدينتنا التى عرفناها فى طفولتنا وفى صبانا، سنكون مكابرين حقاً إذا قلنا أن القاهرة على حالها الآن عاصمة تليق بمصر، ومن العار تركها هكذا للأحفاد وقد تسلمناها من آبائنا وأجدادنا فى أحسن حال، بكل أسف ليس القبح والزحام فقط ما اعتراها، فقاهرة المعز ذات الألف عام أصبحت عاصمة لا تَحتَمِل متطلبات العصر وعاصمة لا تُحْتَمل!
 
شوارع مزدحمة، شلل مرورى، لا أماكن مخصصة للانتظار، كمٌ مهول من السيارات ووسائل النقل الصالحة وغير الصالحة رخصت وسمح لها أن تجوب شوارعها ليل نهار، دون قيد أو شرط، ودون داع، ركن على الجانبين صفين وثلاث، ووقوف سيارات الأجرة فى أى لحظة وأى مكان من نهر الطريق لحمل الركاب أو إنزالهم، لا قواعد للمرور، لا حساب، ولا عقاب، حتى أصبحت القيادة فى مصر قطعة من العذاب، وأصبح الشارع أشبه بمدينة الملاهى، ولكن دون لهو، وربما سلة قمامة كبيرة بعد أن عجزنا عن حل مشكلة القمامة. وفوق كل هذا المسخ فى شوارع قاهرة المعز عاصمة المحروسة، أقدم عواصم التاريخ، ما أحاط بها من تشوهات تفاقمت وطفحت عليها فى غفلة من الزمان، فأتت على الأخضر، وأخفت مسحة الحضارة والجمال فى المجمل من المحيط العام للقاهرة، يستحيل مع كل هذا أن تظل هذه واجهة مصر الحضارية، كما يستحيل التضحية بالقاهرة بما تحوى من قيمة تاريخية ومن كنوز وجمال.
 
كيف نرفع هذا القناع المشوه عن هذا الوجه البديع؟ الحقيقة هى ليست معضلة، ومن السهل استرجاع الوجه الحضارى للقاهرة بعملية تجميل بسيطة، برفع معالم الترييف التى حلت بالمدينة وإزالة ما أفسدت يد الغزاة الجدد فى غفلة منا ومن الزمان، فشوهتها على العكس مما أبدع الدهر، ومعالم الترييف لا تقتصر على المبانى العشوائية التى أحاطت كل الأحياء الراقية الجميلة لم تذر ولم تدع ولكن فى ترييف وسائل المواصلات هذا الكائن العجيب الذى يسمى التكتوك وقبله العلب التى تسمى ميكروباصات، أشياء تشغل حيزاً كبيراً من الشارع وتخدم كل على حدة، أعداد قليلة من المواطنين فماذا لو رفعنا هذه الأشياء وعدنا لوسائل كالترام والأندرجراوند والمترو التى تستوعب العدد الأكبر من الركاب، وتشغل الحيز الأصغر من الشوارع وتحترم قواعد المرور وتحكم اماكن الركوب والنزول ولا نحتاج للركن على ضفتى الطريق ؟ لماذا لا يتم إزالة العشوائيات وتعويض سكانهم وتوسعة الطرق على حسابها ؟ لماذا لا نكلف مهندساً معمارياً موهوباً وفنانا مبدعاً بتلوين ورسم ما يصلح للبقاء من هذه العشوائيات كما يفعل اهل النوبة الجميلة فى بيوتهم الغاية فى الجمال والذوق والبساطة والنظافة او على غرار قرية تونس بمحافظة الفيوم والتى اصبحت نموذجاً ومزارا سياحيا يزوره السائح كمعلم من معالمها والتى يرجع الفضل فيها لسيدة سويسرية استطاعت بالجهود الذاتية وبالتعاون مع سكان المحافظة أن تجعلها قطعة فنية جميلة هى الأخرى لماذا لا نتخذ من هذه النماذج مثلاً ونصنع بالعشوائيات ما صنع هؤلاء فيصبح منظرها اكثر تحضراً وقبولاً ؟ فلا يمكن بحال أن يكون الحل هو رفع اليد عن القاهرة بما هاجت وماجت والهجرة إلى عواصم أخرى وفقط فنكون بذلك كمن قرر أن يبدأ من الصفر وان يضحى بـ"تحويشة العمر" ونكون كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا ! وليست القاهرة الزوجة الأولى التى شاخت ومرضت وخرجت فتاوى الشيوخ بأن خسارة فيها العلاج ولندعها تموت ولنحلل لأنفسنا الزواج بأخرى !! فالقاهرة ذات الالف عام لا يملكها جيل دون آخر حتى يحكم عليها جيلنا بالإعدام برصاصة الرحمة لانها تشوهت وبأيدى هذا الجيل نفسه لا جيلٌ آخر، سيحاسبنا التاريخ والأجيال اذا ما تركنا الامور تتفاقم هكذا دون أن نحاول انقاذها فالحفاظ على التاريخ والتراث واجب قومى والقاهرة ليست مجرد عاصمة فقاهرة الف عام من الحضارة هى ثروة تاريخية لا تقدر بثمن لو اهدرناها ستتهمنا الأجيال اللاحقة بأننا من فرطنا فى "تحويشة العمر والسنين" وسيتهموننا بالتقاعس عن رفع ما افسدت ايدينا وسنكون نترك للتاريخ شاهداً على انحدار جيلنا وسوء أخلاقه وتصرفاته فى تعامله مع ما ترك له الأجداد من عظمة، لنملك الشجاعة ولنتصارح بأن قاهرتنا لا تحتاج لمن يرفع عنها تجاعيد الزمان فما اجمل الماضى والزمان وإنما تحتاج منا أن نوارى سوأتنا وقبح حاضرنا !!
 
ولن يشفع لنا فى إهمال المدينة العجوز المدينة الأم مدينة التاريخ والحضارة لو بنينا آلاف المدن والعواصم وإذا كان الجديد لن يكون بمثابة جراحة تجميل للقاهرة لا ينبغى أن يكون بمثابة جراحة البتر ...
* أستاذ بطب قصر العينى .
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة