حين تفتح شباك غرفتك المعتمة، وتنظر إلى شعاع الشمس الذي يتحين مرور سحابة ثقيلة ليمطرك بالقبلات.. يختبئ ويضرب عينيك، فكأنما السماء طفل مستهتر في البناية المجاورة يسلط عليك انعكاسات الضوء في مرآة أبيه، ستهب رياح الترقب من جهة المعدية على الضفة الأخرى من الحي، يخرج البخار من فمك قاطعًا سبيل العودة، سرعان ما يغير راية فيتكاثف ندًى صباحيا يدمع على زهرة أخيرة في حديقة قلبك السوداء، سترفع يديك تحيةً لموكب من الغبار تباطأ عند كلب ناعس في نهاية الحارة، بائع الحليب يتريث قرابة الباب، ثم يغربل نفسه، آخذًا بقسطه إلى بيت آخر، يضع أصبعه على أنفه، تلبس قميصك الذي يلعنك كلما جاست يداك فيه، يعاتبك على ليلة ودعت فيها زوجتك إلى باب الرحيل، ولم تمنحها تربيتةً جوازَ سفر لتمتطي قطار العودة إليك، بوق العمل سيزمجر في جيبك، ستهبط سلماتك الخمسين، مستصحبًا معك خشخشة صدرك وشخوص عينيك.. تسرع الخطى على السلم العليل مسترقًا السمع إلى همس دمعك، تتعثر في جيفة مسحوقة بجوار السلم في موضع أريد له أن يكون مظلمًا، تنفض قدميك، وتكمل طريقك.
ستجلس كما تفعل كل ليلة أمام دكانك الذي ما عاد يأتي بالزبائن، مثل نخلة موغلة في الصحراء، تتناقض هيئتك مع جلستك، يحتسيك الشاي مع صديقين تكاد تنسى اسميهما، وسترجع بعدها إلى البيت قبيل العشاء منهك القوى، كأن أغصانك الرطبة التي بللها ندى الصباح طوحت بها الرياح، وأضحيت عاريًا إلا من أصلك الثابت في الأرض لا يعبأ به أحدٌ على الإطلاق، لا عصفورٌ يلقي عصفورة عليها، ولا نحل يبني قفيره..!
سوف تخلع عنك ثيابك إلى منشفة موازية لباب الحمام، لتفتح ماء الصنبور رافضًا تسليم جسدك للدش المعلق فوقك بربع متر، ترفض تسلط الماء الذي يأتيك من الأعلى، وستملأ من الماء أسفل يديك دلوًا بهتت كتابةٌ كانت عليه، حتى يغوص في بطنه الماء البارد، ترفع «كوز» الجليد السائل، ستضعه على رأسك في حركة مفاجئةً، وسينتفض الشعر، ويتقعر ويلتف من حول الماء المندفع، كأنه كريستال غير مرئي يحيط بشعلة مقدسة في قطرة ماء.
ستشهق مرة أو مرتين من برودة الماء، وقبل أن تستل الغرفة الثانية من الماء ستسائل ذاتك: لم تحب هذا العذاب، أم أن هذه الجفلة، الخلجة التي تزورك والماء يقبل جسدك، تشعرك بأن لك رد فعل، وأنك قادر على أن تتجاوز أخطاء حياتك، وطلاق زوجتك، ورحيل طفليك في جعبة أمهما، ونصف معاشك الذي يعتاشون منه.. لن تقبع في هذه الصورة أكثر من اللازم، تاركًا إياها وسط ألبوم كئيب لم تنخره الذاكرة التي تهوى استلال بقايا الدفء العالق في معطفك القديم، تاركة إياك في دهليز الذاكرة الملتفة.
ستسمع جلبة، وستخرج نصف عارٍ من الحمام، تجري إلى منتصف الردهة، وستفتح شباك الصالة المطل على الحارة من أسفل، يصدر أزيزًا يشبه مقاومة أخيرة لجسد يهوى في قاع بئر جافة.. لا شيء في الظلام غير كلب يفترشه ذيله، وفأر يطلق نميمه في كل مكان، يختفي الناس إلا من طارق أو اثنين، يتوكآن ظلهما ويصاحبانه إلى بيتيهما هناك، لا سبب للجَلَبَة الحادثة على الإطلاق.
تغلق الشباك، وترجع إلى المرآة المعلقة في جانب من الحجرة، تعبرها بوجهك الحليق، تنظر لها شذرًا كأنما هي خصم أبدي ينتظرك حتى تنام.. تعود مفزعًا إليها، مسرعًا، تتوقف شاهقًا، ستتراجع خطوتين، وسترتبك مشيتك، ويعرقلك الكرسي الوثير، وستسقط عليه، مغطيًا عينيك غير مصدق..
فهناك على الحائط قبالتك تمامًا كان رجل يكبرك بعشرين عامًا..!
تغمض عينيك، تنمو بذرة شك بداخلك تظلل يقينك الخاص، فتظنُّ أنك إذا غفوتَ فسيكون كابوسًا وينقضي! لا تلبث أن تفتح عينيك، متشبثًا بأمل الوهم، وبضبابية الرؤية، لكنك تلمح ذلك الرجل من المرآة ما زال يطل عليك بذهولك الذي تنفقه باذخًا.. اللحية البيضاء، والوجه المتغضن، والعينان الغائرتان، هذا الوجه يشبهك.. كأنه أنت في المستقبل، أو كأنك أياه في الماضي.. ترتبك حسابات الزمان، وتتلعثم خطواته، وتكاد تستسلم للرعب الذي يصب زيته في نيران قلبك..
ينقض عليك وجهك، تهاجمك ملامحك، وتنفض عنك أسرارك، ويختلط في مخيلتك ما حدثٌ بما لم يحدث، كأنك سأرقٌ لم يتب، لكن يديه ترتعشان كلما تجرأ على أن يتطلع إلى شيء لا يخصه.
ستجوس في وجهك بيديك من أسفل إلى أعلى، ترفع ذقنك في مشهد كمثري، كأن يديك عصا سحرية تريد أن يعيد بها وجهك سيرته الأولى، ستغطى ثلثيه بأصابع ثمانٍ ثم تكشفه فجأة، لعل المرآة تتردد في لعبتها السخيفة، وتردّ لك وجهك الذي صاحبك في ثلاثية الدراسة والشارع والمقهى، الوجه الذي صاغ معك خطة عبثية للانتصار في مواقع الدومينو وغزوات الطاولة، التي يقرقع نردها فيأتيك مطأطئًا، حاملًا رقمًا يناسب فرجة لوحة اللعب أمامك.
تعطيه ظهرك، وتشرع في الكتابة.. تأخذك الكلمات، وتختارك الأحرف، تنسجها لحنًا هادئًا، تكتب قصة عن قمر غادر، وطفلة مثل وجه الشمس، في مده وجزرها تتشكل لوحة استكانة، تمسك الطفلة بعنانه ويصبح ملكًا لها، يتسع سقف الصالة في فضاء سرمدي.. وتضطرب الصورة لتتهاوى عميقًا..!
بين اليقظة الحلم، بين انفتاح المجهول وانغلاق المألوف المكرَّر، وانطباق الحوائط، وارتفاع حموضة المعدة، ورعدة تصيبك على حين غرَّة، تنظر إلى المرأة فتراكَ هناك مبتسمًا، لم يمض الزمان بك!