عاد محمد فريد، رئيس الحزب الوطنى إلى منزله ليلا، فأخبره الجناينى أن أحد ضباط البوليس حضر لمقابلته، وطلب أن ينتظره لمقابلته لأمر خاص، ويروى «فريد» فى مذكراته المنشورة ضمن المجلد الثانى من «مواقف حاسمة فى تاريخ القومية العربية» تأليف، محمد صبيح، أنه انتظر حتى حضر ضابط البوليس، وكان ذلك يوم الأحد 24 مارس «مثل هذا اليوم 1912»، وبعد الجلوس أفهمه أنه مكلف بتوصيل جواب رئيس نيابة مصر إليه، فدهش لأنه لم يخطر لى على باله مطلقا أن خطبته التى ألقاها يوم 22 مارس بها شيئا يعاقب عليه، ويقول: «زادت دهشتى لما أطلعت على الجواب، ووجدته يدعونى للحضور صباح الاثنين لاستجوابى عما جاء فيها».
جاءت زيارة ضابط البوليس بعد يومين من خطبة فريد أمام الجمعية العمومية السنوية للحزب الوطنى، ووفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتاب «محمد فريد رمز "الإخلاص والتضحية» عن «دار المعارف - القاهرة»، فإن فريد ألقى خطبة عن الحركة الوطنية وتطورها فى عام 1911، وتناول فيها: ثبات الحركة الوطنية أمام الاضطهاد، وتطور مشروع الجامعة المصرية الذى نادى به مصطفى كامل فى سنة 1906، والحركة التعاونية التى نادى بها الحزب الوطنى ومحاربة الحكومة لها، وتحدث عن ضرورة عمل نقابات للعمال، وتناول بؤس حال الفلاح فى مصر، ونادى بضرورة تأسيس المدارس، وحث على الجهاد، وطالب بدستور للبلاد.
يؤكد الرافعى، أن هذه الخطبة قوبلت بالتصفيق والتأييد، وأصدر المؤتمر قرارا بتجديد الاحتجاج على الاحتلال الإنجليزى، وإرسال برقية بذلك إلى وزير خارجية إنجلترا، وأصدر قرارا آخر بطلب رد الدستور إلى الأمة، وإرسال برقية بذلك إلى الخديو عباس حلمى الثانى، وانتهى الاجتماع قبل الظهر، ودعاهم فريد إلى تناول الشاى فى الثامنة مساء بنادى الحزب.
ويرى الرافعى، أن هذه الخطبة خفيفة اللهجة بالنسبة لخطبه السابقة، ولم يكن فيها شىء يستوجب أية مسؤولية، ولهذا قوبلت إجراءات النيابة بالدهشة والاستغراب من الناس جميعا، لكن الاحتلال وصنائعه ساءهم أن يظل الفقيد حاملا لواء الحركة الوطنية، وكانوا يظنون أن ما ناله من قبل من سجن سيثنيه عن جهاده، فلما رأوه ماضيا فى طريقه اعتزمت الحكومة أن تعمل على إعادة الزعيم إلى السجن، وكانت نحو ثمانية شهور قد مضت على خروجه من السجن الذى أمضى فيه ستة أشهر من «23 يناير 1911 إلى 17 يولية 1911»، بتهمة كتابة مقدمة ديوان شعر «وطنيتى» تأليف: الشيخ على الغاياتى، وحسب «الرافعى»: «سعى الوزراء وأنصارهم لإصدار عفو عنه، وجاءه كولس باشا مدير مصلحة السجون، وخلا به فى غرفته، وتحدث إليه بالفرنسية قائلا: «إنى لا أطلب منك تغيير مبادئك بل تخفيف لهجتك»، فرفض، فقال كولس باشا: «أنت تريد إذن قضاء الستة شهور فى السجن»، فقال الزعيم: «نعم وأزيد عليها يوما إن أردتم»، فأدرك كولس ألا سبيل إلى مساومته وانصرف، ويضيف الرافعى: «أكثرت بعض الصحف وبخاصة «الجريدة»، وكان مديرها الأستاذ أحمد لطفى السيد بك من التحدث عن العفو والدعوة إليه، فقال فريد إلى محدثيه: «أرجو أن تبلغوا لطفى بك السيد أن يتحاشى طرق هذا الموضوع، فإن هذا ما لا أقبله ولا أرغب فيه».
يضيف الرافعى: «بعد بضعة أسابيع زاره فى السجن الدكتور عثمان بك غالب، موفدا من قبل الخديو ليعرض عليه من جديد مسألة العفو، وقال له: إن الخديو مستعد للعفو عنه، ورغب إليه أن يقدم طلبا بذلك، فلامه الزعيم على مسعاه، وقال له: «أنا لا أطلب العفو، ولا أسمح لأحد من عائلتى بطلبه عنى، وإذا صدر العفو فلا أقبله».
هكذا عاش محمد فريد بكل إباء تجربته فى السجن، وخرج ليواصل كفاحه، وفى خطبته يوم 22 مارس 1912 سنجدها برنامجا شاملا يستنهض المصريين لحمله، ولم يجد الاحتلال سبيلا إلا إعادته مرة أخرى إلى السجن، فذهب ضابط البوليس إليه يوم 24 مارس لاستدعائه إلى النيابة، ويكشف فريد عما دار بخلده بعد أن قرأ جواب الاستدعاء: «وعدته بالتوجه فى الغد إلى النيابة، فطلب منى كتابة ذلك على الظرف، ففعلت وانصرف، وفى هذه اللحظة صممت على ترك مصر، ولكن لم أخبر زوجتى، بل لما سألتنى منى عما يريده هذا الضابط، قلت لها إنه صاحبى، ويريد استشارتى بصفتى محاميا فى مسألة شخصية، وبعدها خابرت صادق رمضان وفؤاد بك سليم ومحمود بك فهمى المحامى، وإسماعيل بك لبيب وإسماعيل حافظ، أى أعضاء اللجنة الخصوصية التى كنا شكلناها للمداولة فى مشاكل الحزب الهامة قبل عرضها على اللجنة الإدارية».
توجه فريد إلى النيابة فى اليوم التالى، فماذا حدث معه؟