ما الذي يحدث تمامًا فى شرق المتوسط؟..وإلى أى حد يمكن أن يتطور النزاع بين قبرص - عضو الاتحاد الأوروبى - وتركيا - عضو الناتو - إلى حرب ولو محدودة بين البلدين؟.. وماذا سيكون موقف الاتحاد الأوروبى من ذلك وأغلب أعضائه يتزاملون مع تركيا فى حلف الناتو؟..وماذا سيكون موقف اليونان حال نشوب حرب بين قبرص وتركيا؟ هل سيتغلب العامل القومى على ما سواه في تلك الحرب أم ستتغلب المصلحة السياسية لدول الاتحاد الأوروبى وتتوتر الأوضاع بينهم وبين تركيا؟.. ثم هل يمكن أن تنشب الحرب بالفعل بين تركيا وغيرها من الدول المطلة على المتوسط بسبب الغاز؟ وكيف ستبدو التحالفات حينها؟
الاسئلة تلك وغيرها فرضت نفسها فى اللقاءات الثنائية خلال مؤتمر ميونيخ للأمن والدفاع، وفرضت نفسها مرة أخرى نهاية الأسبوع على كل من يعنيه أمر ما يحدث فى شرق المتوسط بسبب الغاز. فما هى الحكاية؟
قبل الأمس تزايد التوتر مرة أخرى بين قبرص وتركيا بسبب الخلاف حول احقية كل منهما فى البحث عن احتياطيات الغاز بالمتوسط.. ليس فقط فى مناطق المياه الحدودية بين البلدين، بل أيضًا فى مناطق المياه الدولية القبرصية، والتى تعتبرها تركيا مناطق متنازع عليها - وبعضها من وجهة نظر تركيا من حق قبرص التركية"، التى لا يعترف بها أحد سواها، وازداد التوتر إلى حد إعلان تركيا عن عزمها منع البحث عن الغاز فى تلك المناطق ولو أدى الأمر لاستخدام القوة العسكرية.
وبالفعل أعلنت بالأمس مجموعة إينى الإيطالية أن سفينة الحفر "سابين 12000"، غادرت موقع العمل جنوب شرق مدينة لارناكا القبرصية الساحلية فى اتجاه الغرب - وذلك بالتزامن مع تصريح وزير الطاقة التركى بيرات البيرك - زوج أبنة أردوغان - بأن تركيا لن تسمح للحكومة القبرصية بالبحث عن الغاز من جانب واحد، مشيرًا إلى أن تركيا ستمنع البحث عن الغاز تماماً حتى التوصل إلى خطة لإعادة توحيد الجزيرة المقسمة.
تصريح وزير الطاقة التركى تسبب من وجهة نظر الأوروبيين فى إعادة خلط الأوراق من جديد بشأن المشكلة القبرصية المستمرة منذ احتلال تركيا للجزء الشمالى من قبرص صيف عام 1974، وتقسيمها بدعوى منع استيلاء اليونان على الجزيرة، والادعاء حينها بحقها فى حماية الأقلية العرقية التركية هناك والتى تمثل قرابة خُمس سكان شمال قبرص.
المشكلة ليست جديدة، والمفاوضات بشأنها فشلت أكثر من مرة، وآخرها تلك التى تمت فى كرانس مونتانا بسبب الخلافات تحديدًا حول الدور التركى كقوة إقليمية حال إعادة توحيد قبرص ووجود القوات العسكرية التركية الدائم فى الجزيرة.
سألت مسؤولاً سياسياً كبيراً فى ألمانيا حول احتمالات تأزّم الموقف أكثر من ذلك، والموقف الذى يلجأ إليه الاتحاد الأوروبى للدفاع عن قبرص، عضو الاتحاد، فى ضوء التداخل الحالى بين عضوية الناتو وعضوية الاتحاد الأوروبى، لكثير من دول أوروبا، فقال: "الموقف برمته يضع أوروبا والناتو معاً على المحك، ويعيد للأذهان ما ذكرته وزيرة الدفاع الألمانية فى مؤتمر ميونيخ - وكرره وزير الخارجية الألمانى مرتين على الأقل بشأن حاجة أوروبا لقوة دفاع عن نفسها.. نحن فى موقف لا نُحسد عليه - كأعضاء فى أوروبا والناتو معاً، وعلينا تفعيل وسيلة موحدة للفصل بين الحقوق المتنازع عليها بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى - مع عدم الإخلال بلائحة الناتو، والتى تعتبر أن أى عدون على أى عضو من أعضاء الناتو - اعتداء على كل دول الحلف .. لا نستطيع الآن ترك الأمر دول حل، خاصة وأنه معرض للتكرار مع قبرص وغيرها، ولا نستطيع المغامرة بترك تركيا - عضو الناتو - تتصرف مع أعضاء الاتحاد الأوروبى على نحو يخل بحقوق دول الاتحاد الأوروبى - كذلك لا يمكننا الادعاء بأن كل دول الاتحاد الأوروبى تساند تركيا، أو أن كل دول الناتو يساندون تركيا فى مزاعمها تلك...سيكون علينا فى لحطة ما التضحية بشكل ما حال التضارب بين أوروبا والناتو".
احتياطيات الغاز المحتمل وجودها والمختلف عليها كبيرة للغاية قبالة السواحل الجنوبية والشرقية لقبرص، ففى عام 2012، قدرت دراسة بنك رويال أوف سكوتلاند القيمة السوقية للاحتياطيات المحتملة بأكثر من 600 مليار يورو، وهو ما يعنى تحول الجزيرة التي كانت على شفا الإفلاس في عام 2013 وتم إنقاذها بقروض وإعانات ومساعدات أوروبية إلى جزيرة غنية للغاية، كذلك لا يمكن غض الطرف بهذا الخصوص عن احتياجات أوروبا من الغاز القبرصى، والذى سيرفع الضغط الذى يُمارس على أوروبا بشكل كبير، وسيوفر الكثير من احتياجات وسط أوروبا من الغاز.
تراهن قبرص حتى الآن على عضويتها فى الاتحاد الأوروبى لحل تلك المشكلة مع تركيا - لكنها تعلم أن تركيا فى حلف الناتو، ما يجعل الأمر معقدًا على نحو كبير - بالرغم من ذلك أقدمت قبرص فى السنوات الاخيرة على ممارسة حقها - برغم التعنت التركى، وقامت بترسيم حدودوها البحرية عبر مفاوضات مع جيرانها ومن بينهم مصر بشأن كل ما يتعلق بالسواحل الجنوبية والشرقية، وجرى التوافق بالفعل على ترسيم ثلاثة عشر منطقة استكشاف قبرصية - باتت تُعرف باسم الكتل، وبموجب ذلك منحت قبرص امتيازات لعدد من شركات الطاقة الدولية ومن بينها مجموعة إينى الإيطالية وتوتال الفرنسية فى مطلع فبراير الحالى، ما دفع الشركة الإيطالية لبدء البحث بالفعل - وإعلانها مؤخرًا، اكتشاف الغاز بكثافة فى الكتلة السادسة القبرصية - هذا علاوة على إعلان شركة الطاقة الفرنسية توتال، اكتشاف احتياطيات واعدة فى المياه القبرصية، وهذا تحديدًا ما دفع تركيا بمحاولاتها الأخيرة تلك لمنع استمرار البحث عن الغاز.
تركيا تنفى حق قبرص منح تراخيص للتنقيب عن النفط والغاز، وهى لا تطالب فقط بمشاركة القبارصة الأتراك فى الدويلة المزعومة بالكميات المكتشفة، بل وتدعي تركيا أيضا أن لها حقوقها الخاصة فى المناطق التى جرى ترسيمها باعتبارها مناطق قبرصية - خاصة فى الكتل المرسّمة، تحت أرقام 1 و 4 و 5 و 6 و7 بادعاء أن تلك المناطق البحرية تدخل ضمن نطاق الحدود البحرية التركية - باعتبار أن تركيا لا تعترف بحقوق قبرص البحرية، والتى تعترف بها كل الدول الأعضاء الاتحاد الأوروبى بموجب القانون الدولى.
واقع الحال الآن يقول إن السفن الحربية التركية فرضت حصارًا بحريًا فى المنطقة القبرصة، ومنعت سفينة الحفر "سايبم 12000" من الوصول إلى منطقة العمل فى البلوك 3 لمدة أسبوعين كاملين، مبررة ذلك بالقيام بمناورات بحرية فى المنطقة - وبالرغم من أنها أعلنت من قبل أن مناوراتها تلك ستنتهى يوم الخميس الماضى، إلا أنها عادت ومددت المناورات حتى العاشر من مارس المقبل، وبالتالى فإن الحفر والتنقيب من الشركات الدولية بات غير ممكناً حتى ذلك التاريخ.
كل الأطراف تنتظر موقف الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا بدوره لن يكون أمرًا سهلًا، كذلك فليس هناك ضمانات لعدم إقدام تركيا على توتيرالأوضاع بالمنطقة برمتها، ومحاولة تكرار ما فعلته مع قبرص معدول اخرى وخاصة مصر، وحينها ستكون الأوضاع قد وصلت لطريق لا يتمناه أحد، فالقاهرة، أعلنت أنها ستحمى حقوقها، ولن تسمح لأحد بالاقتراب منها، وتركيا تحشد قواتها فى المتوسط بدعوى المناورات.
المراقبون فى الاتحاد الأوروبى يتوقعون حدوث الأسوأ فى الأيام المقبلة - حال عدم التوصل إلى حل وسط - يقضى بلجم السياسات التركية، والتى قد تدفع المنطقة برمتها إلى حرب لا يعلم أحد مداها ونتائجها وتداعياتها.
ليس هناك اتفاق عام فى أوروبا على موقف موحد حول ما يحدث فى المتوسط، فلكل بلد حساباتها ومصالحها، والجميع ينتظر ما ستصل إليه الأمور فى المتوسط، ومن الذى سيكون له اليد الطولى على "الكتل"، التى يجرى التنقيب فيها.
فهل تندلع الحرب؟ ومن هى الأطراف التى ستضطر للمشاركة فيها دفاعًا عن حقوقها ..هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة