اجتمع القنصل البريطانى، والقنصل الفرنسى، ونوبار باشا، رئيس النظار «الوزراء»، فى دار «الوكالة البريطانية» السفارة بالقاهرة صباح يوم 19 فبراير «مثل هذا اليوم» 1879، حسب تأكيد «نوبار» فى مذكراته الصادرة عن «دار الشروق- القاهرة»، لبحث واقعة تمرد الضباط يوم 18 فبراير.
كان هذا التمرد هو الأول من نوعه منذ تأسيس محمد على باشا للجيش المصرى، وحسبما يذكر «إلياس الأيوبى» فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديوى إسماعيل باشا» «مكتبة مدبولى- القاهرة»، فإن سببه هو إحالة ألفى وخمسمائة ضابط إلى الاستيداع بحجة «الاقتصاد فى مصاريف الجيش المصرى»، وذلك فى سياق علاج مشكلة عجز سداد إسماعيل للديون الخارجية، وهى المشكلة التى دفعته إلى الاستسلام لمطالب الدول الدائنة بتشكيل «مندوبية لفحص الحالة المالية»، ضمت مصريًا واحدًا هو «مصطفى رياض باشا»، ومندوبا إنجليزيا هو «ريفرس ويلسن» وآخر فرنسيًا اسمه «ليرون ديرول»، وأصبح الاثنان عضوين فى حكومة نوبار باشا، وكان لهما سلطة القرار فى تصاريف أموال مصر، وفى هذا الوضع أصبح «إسماعيل» حاكمًا بلا قرار.
ويؤكد «الأيوبى» أن «ويلسن» كان صاحب قرار إحالة الضباط إلى الاستيداع، دون حصولهم على رواتبهم المتأخرة، فانضموا مع عائلاتهم إلى أقصى حدود الفقر، بدليل أن ضابطًا طالبه صاحب البيت بأجرة السكن المتأخرة عليه، فخرج واستدعى أول حمار قابله «كانت الحمير وسيلة المواصلات»، وركب الحمار قائلا لصاحبه: «أمكث هنا حتى أعود إليك» وأعطيك الأجرة، وذهب الضابط بالحمار إلى السوق وباعه وعاد بثمنه، وسدد ديونه لصاحب البيت وسلم الباقى إلى صاحب الحمار، وصرفه دون اهتمام بندبه وعويله.
يوضح «الأيوبى» أنه كان يوجد من هؤلاء 500 ضابط فى القاهرة، والباقى يعيش خارجها، واستدعى شريف باشا وزير الحربية الألفين إلى القاهرة ليحصل الجميع على جزء من رواتبهم المتأخرة، ويسلموا سلاحهم، فجمع بذلك 2500 ضابط غاضب فى وقت واحد، وتصادف أن «ويلسن» كان فى طريقه إلى «سراى المالية» بعد انتهاء مقابلته مع الخديوى إسماعيل بقصر عابدين، وقبل أن يجاوز «عابدين» بعربته رأى جمهرة من الناس، فتوجه إليها ليجد نوبار فى عربته محاطًا بعدد من الضباط، بعضهم قبض على رؤوس الجياد وأوقفها، وبعضهم وثب إلى العربة وأمسكوا بنوبار وقطعوا رباط رقبته، ورموا طربوشه على الأرض وداسوه فى الوحل، وناولوه بالصفعات على وجهه، ولما شاهد الضباط ويلسن: «وثب ستة منهم داخل المركبة، وقبضوا على لحيته ونتفوها، وأشبعوه ضربًا ولكمًا، أكثر بكثير مما نال نوبار على أيدى زملائهم».
سحب الضباط «نوبار» و«ويلسن» وساقوهما إلى باب المالية، وأدخلوهما إلى غرفة «ويلسن» وهددوا بأنهم سيواصلون ضربهما إذا لم يتم صرف المرتبات المتأخرة، وجملتها 15 شهرًا لبعضهم، وتزيد على 20 لآخرين، وبينما كان «نوبار» يعد ويراوغ، سمع فجأة أصواتًا فى الخارج تقدم التحية، وكان «إسماعيل» هو القادم بعد أن بلغه ما حدث للوزيرين، وحسب الأيوبى: «بعد أن تأكد الخديوى من سلامتهما، التفت إلى المتمردين ووعدهم بإجابة طلباتهم العادلة»، وأمرهم بمغادرة السراى قائلا: «إذا كنتم ضباطى، فيمينكم تلزمكم بطاعتى، فإن رفضتم، كنستكم كنسا». فأطاعوه على غير رغبة، وتذمر بعضهم، وصاح آخرون: «ليمت الكلاب النصارى»، وأطل «إسماعيل» من نافذة وأمر الذين يحاصرون السراى بالتفرق لكنهم رفضوا، فاستدعى الجيش، وأطلق ضباط مسدساتهم فى الهواء، وجرح بعض الجنود والمتمردين، وجرح تشريفاتى الخديوى بضربة سيف وهو بجانب مولاه، وتعرض الخديوى نفسه إلى خطر كبير، واستمر الأمر نصف ساعة».
انصرف إسماعيل واستدعى نوبار، ولما دخل عليه وجده جالسًا على أريكة كما كانت هى عادته عندما يجلس متبسطا، ويصف نوبار المشهد: «عند دخولى قام بتغيير وضع جلسته وصافحنى ثم التزم الصمت، فجلست على كرسى فى مواجهته، وقلت له: «إن ما حدث أمر مؤسف سيدى»- ظل ساكنًا- أكملت: «إن مصير مصر هو ما كان يتم التلاعب به اليوم فى وزارة المالية»، «يديرها الإنجليزى ولسون»، واستمر إسماعيل فى صمته، فنهض نوبار ورحل.
يؤكد الأيوبى أن «إسماعيل» استغل هذه الأزمة، حيث استدعى قناصل الدول فى عصر هذا اليوم، وأبلغهم أنه إذا لم تعاد إليه السلطة التى هى من حقوقه فلن يكون مسؤولا عن الأمن العام فى البلاد، ويقول نوبار، إنه حين ذهب إليه فى اليوم التالى «19 فبراير»، وكان معه «ولسون» والقنصل الإنجليزى «فيفيان»، الذى صعد إليه وسأله إذا كان فى نيته أن يتكفل بضمان وتأمين الأمن والهدوء العام، فرد إسماعيل بأنه يتكفل بالحفاظ على الأمن، إذا حصل على الرئاسة الفعلية لمجلس النظار وبسط سيطرته على البوليس، وقال إسماعيل لفيفيان: «هذه السلطات جردتنى منها». وحسب الأيوبى، تمت الموافقة على ذلك، وأقيل نوبار، وذهب الأمير حسن باشا ابن إسماعيل، قائد عام الجيش المصرى إلى «ويلسن» واعتذر له على ما حدث من الضباط المتمردين، وتم اقتراض 400 ألف جنيه ودفعت متأخرات لهم دون أن يعاقب أحد، ويعلق الأيوبى: «عرفت الجندية بذلك قوتها، وربما تفرخت الثورة العرابية كلها من بيضة تلك الفتنة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة