موجة الغضب فى باريس، والتى قادتها مجموعة "السترات الصفراء"، دفعت الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى التراجع عن قراره بزيادة أسعار الوقود، فى خطوة ربما تمثل نقطة النهاية لرؤيته الإصلاحية فى فرنسا، والتى تقوم فى الأساس على استعادة المكانة الاقتصادية بالتزامن مع العمل على توسيع النفوذ الفرنسى على المستوى الدولى، عبر البوابة الأوروبية، من خلال قيادة الاتحاد الأوروبى، خلفا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتى خسرت الكثير من مكانتها الدولية بعد انتهاء حقبة أوباما، وتدهور الأوضاع فى الداخل بسبب الاحتجاجات على سياساتها المتعلقة بالهجرة، والتى خلقت حالة من الشقاق داخل إئتلافها الحاكم.
إلا أن التراجع الذى أقدم عليه الرئيس الفرنسى فى الداخل لتهدئة الأوضاع الغاضبة، ربما لن يكون الأخير، حيث قد يمتد إلى تنازلات أخرى فى الأيام القادمة، ليس فقط فيما يتعلق بمواقف الحكومة الإصلاحية لتحسين أوضاع الاقتصاد الفرنسى، وإنما كذلك فى المواقف الدولية التى تتبناها باريس فى العديد من القضايا الأخرى، خاصة مع تزايد الضغوط التى قد تفرضها القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على ماكرون فى الأيام القادمة، لفرض رؤيتها على الموقف الفرنسى، فى ظل اختلافات تبدو عميقة بين الجانبين فى العديد من القضايا.
دبلوماسية "الابتزاز".. مباركة أمريكية للحراك الفرنسى
ولعل التغريدة التى أطلقها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، اليوم الأربعاء، والتى أكد خلالها أن احتجاجات باربس جاءت لتقدم دليلا دامغا على صحة رؤيته فيما يتعلق بالانسحاب من اتفاقية باريس المناخية، تمثل انعكاسا واضحا لمباركة الولايات المتحدة للحراك الفرنسى، ومحاولتها تأجيجه، فى إطار سعيها لإبتزاز الحكومة الفرنسية، للحصول على أكبر قدر من المكاسب، خاصة وأن حاول الربط بين الإجراءات التى تتخذها الحكومة الفرنسية فى إطار التزامها بالاتفاقية التى تهدف إلى حماية البيئة من جانب، والقرار الذى اتخذته بزيادة أسعار الوقود، والذى أعلن رئيس الوزراء الفرنسى إدوار فيليب التراجع عنه أمس الثلاثاء فى خطاب تلفزيونى.
ترامب وماكرون
النهج الذى يتبناه الرئيس الأمريكى تجاه الأزمة الفرنسية يمثل امتدادا صريحا لدبلوماسيته تجاه الحلفاء فى أوروبا، منذ بزوغ نجمه على الساحة السياسية، والتى تقوم فى الأساس على تغيير قواعد العلاقة التاريخية بين الجانبين، مع محاولات إرضاخهم لتحقيق الرغبات الأمريكية فى مختلف القضايا، وهو ما بدا واضحا فى قراره بفرض رسوم جمركية على الواردات القادمة من أوروبا للولايات المتحدة، وهو ما يعد بمثابة نقطة تحول فى العلاقات الأوروبية الأمريكية.
مجرد بداية.. ترامب يواصل ضغوطه على باريس لإخضاعها
إلا أن معاهدة باريس المناخية ربما لا تكون القضية الوحيدة التى ربما يضغط من أجلها الرئيس الأمريكى على نظيره الفرنسى لتقديم تنازلات بشأنها، ولكنها تمثل حقيقة الأمر مقدمة لضغوط أخرى، سوف تقدم عليها الإدارة الأمريكية فى المرحلة الراهنة استغلالا لحالة الخلل التى تشهدها الساحة السياسية الفرنسية جراء المظاهرات العنيفة، خاصة وأن الخلافات بين ترامب وماكرون تبدو أعمق بكثير من قضية التغير المناخى، ربما لتتجاوز المواقف الدولية، إلى التصريحات الشخصية التى أدلى بها ماكرون فى العديد من المحافل فى الفترة التى سبقت التظاهرات، والتى اعتبرها ترامب بمثابة إهانة لبلاده.
ويعد حديث ماكرون عن ضرورة تأسيس جيش أوروبى مشترك كان أحد أبرز القضايا التى أثارت جدلا كبيرا بين واشنطن وباريس فى الأيام الماضية، خاصة وأن الرئيس الفرنسى اعتبر أن هناك حاجة ملحة لتلك الخطوة لمجابهة التهديدات القادمة من روسيا والصين والولايات المتحدة، وهو ما رفضه تماما الرئيس الأمريكى خاصة وأن ماكرون وضع خصوم المعسكر الغربى التاريخيين فى نفس الكفة مع واشنطن، معتبرا أن ذلك بمثابة إهانة فرنسية للولايات المتحدة، بالإضافة إلى أن مثل هذا الاقتراح من شأنه تعزيز قوة الاتحاد الأوروبى الذى يتبنى الرئيس الأمريكى موقفا مناوئا له.
الموقف الفرنسى كذلك من الاتفاق النووى الإيرانى يمثل أحد أبرز الخلافات بين إدارة ترامب وحكومة ماكرون، خاصة مع التمسك الفرنسى بالاتفاقية النووية التى وقعتها القوى الدولية الكبرى مع طهران، برعاية الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، فى يوليو 2015، حيث ترى الحكومة الفرنسية أن قرار ترامب بالانسحاب من الصفقة النووية فى مايو الماضى غير مبررا، خاصة وأن القرار جاء أحاديا دون تنسيق مع الدول الأخرى المشاركة فى الاتفاق، وعلى رأسهم حلفاء واشنطن، وهم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
تنازلات جديدة.. هل يمتد مسلسل التراجع الفرنسى إلى المستوى الدولى؟
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت التنازلات الفرنسية سوف تمتد إلى مواقفها الدولية، بعدما بدأت بالفعل بالتراجع عن قرارها المتعلق بزيادة أسعار الوقود فى الداخل، خاصة وأن الضغوط التى قد تواجهها باريس فى المرحلة المقبلة، خاصة من الجانب الأمريكى ستكون قوية للغاية، فى ظل محاولات ترامب فى الفترة الراهنة لاستعادة نفوذه فى أوروبا، ولو كان ذلك باستخدام دبلوماسية "الابتزاز"، والتى يجيد الرئيس الأمريكى استخدامها بصورة كبيرة، خاصة وأن عودة العلاقات إلى طبيعتها صار أمرا مستبعدا فى ظل الإصرار الأمريكى على مواصلة نهجها الأحادى سواء فيما يتعلق بعلاقتها المباشرة مع حلفائها من جانب، أو فى مواقفها تجاه القضايا الدولية من جانب آخر.
قوس النصر عانى من الاستهداف من قبل المتظاهرين
يبدو أن الحكومة الفرنسية قد تضطر لتقديم تنازلات جديدة فى المرحلة المقبلة، خاصة وأن هناك شكوك كبيرة حول احتمالات تورط واشنطن فى تقديم الدعم لنشطاء الفوضى فى باريس، ليس فقط لتقويض الخطط الإصلاحية فى الداخل الفرنسى، وإنما أيضا لدحض طموحات الرئيس الفرنسى الدولية والإقليمية فى المرحلة المقبلة، والتى بدت واضحة فى دعوته إلى التعددية، التى أطلقها فى احتفالات فرنسا بمئوية الحرب العالمية الأولى، والتى سعت خلالها فرنسا تقديم نفسها كقوى دولية جديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة