خالد عزب يكتب: أعداء الحوار.. أسباب اللاتسامح ومظاهره

السبت، 15 ديسمبر 2018 10:00 م
خالد عزب يكتب: أعداء الحوار.. أسباب اللاتسامح ومظاهره غلاف كتاب أعداء الحوار

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صدرت فى القاهرة ترجمة عربية لكتاب "أعداء الحوار.. أسباب اللاتسامح ومظاهره" وهو من تأليف مايكل أنجلو ياكوبوتشى والذى عمل متحدثا رسميا باسم رئيس الجمهورية فى إيطاليا، وهو عضو المجلس التنفيذى لليونسكو، وهو أيضا رئيس المجلس التنفيذى للاتحاد اللاتينى، ترجم هذا الكتاب إلى العربية الدكتور عبد الفتاح حسن وهو أستاذ اللغة الإيطالية فى كلية الألسن جامعة عين شمس.

 

يشير مايكل أنجلو أن كلمة "تسامح" عى مصطلح جديد "حديث" ولد فى أوروبا فى عصر التنوير، مع نهاية الحروب الدينية، مصاحبا لترسيخ الأفكار الثورية وهى حقوق الإنسان، التى كانت تترجم بمصطلحات سياسية المبدأ المسيحى القائل بالمساواة بين كل البشر.

 

أما اللاتسامح، حتى ولو كانت كلمة مشتقة من الكلمة السابقة تهدف إلى الإشارة إلى الافتقار إلى التسامح، وفى جوهرها المتمثل فى الانغلاق التام تجاه الآخر، فهى ظاهرة متعسفة، قديمة قدم الإنسان، وبالتالى يمكن فهمها بالغريزة. إنها تتعلق بلا أدنى شك بشيء ما أعم وذو صلة بجانب طبيعتنا القلقة.

يرى مايكل أنجلو أن الصدامات التى أدت إلى إراقة دم الأخوة والتى حددت تاريخ الإنسانية كانت تندلع فى الغالب بسبب احتياجات موضوعية: الطعام، ماء البئر، النساء، ثم بعد ذلك فى أعقاب تعقد التنظيم الاجتماعى، أصبحت تندلع لضمان، مواقع مميزة فى توازن القوى، وغالبا ما كان المنتصر يندمج فى المنهزم، بل وكان يتخذه مثالا، أما قاموس اللاتسامح الذى يعبر عن إنسان عاجز عن النقاش، يفكر ويتكلم بمفرده، دون أى حوار، ويرى أنجلو أن اللاتسامح دائما ما تحركه أحكام تقويمية سلبية أكثر منها أى شيء آخر، إنه دائم الحكم على الأشخاص والأشياء، لديه إحساس بصواب لا حيرة عنه، وتستطيع أن تدرك ذلك من طريقة كلام وإيماءات المتعصب.

ننتقل إلى تساؤل طرحه مايكل أنجلو فى كتابة هو: كيف يمكن أن نقتل باسم الله؟

 

يعتبر أنجلو أن هذا السؤال أحد الأسئلة الكبرى التى ينجم عنها، بشكل حتمى أسئلة أخرى أكبر منها، توقف عندها كبار المفكرين، مثل: ما هى دوافع الإنسان للتدين؟ ويذكر أنجلو أن القدماء لم يكن يسألون قط ما هى ديانتك؟ ولكنه يؤكد أن للدين صلة وثيقة بما يمكن أن نسميه "مخاوف الإنسان الأربعة الكبرى: الخوف من الموت/ الخوف من الوحدة/ الخوف من ألا يكون للحياة معنى/ والخوف من الحرية. يرى أنجلو أن الخوف من الموت يحتل المرتبة الأولى، كانعكاس لغريزة البقاء، أيضا الحيوان يدرك أن كائنا حيا آخر لن يستيقظ ثانية من سباته كما هو الحال كل صباح. لكن وحدة الإنسان لا يستسلم لهذا الأمر ويحاول أن يجد حلاله فى عالم من الغيب. القبر والصلاة هى تعبيرات إنسانية خالصة، فالحيوانات لا تدفن موتاها، وأكثر العقول الإلكترونية تطورا لا تصلى. ولكن الإنسان يتوجه إلى ذات عليا أيضا لكى يجد جوابا لسؤاله عن أسرار الوجود، ليقلل من شعوره بأنه أعزل، لكى يحصل على المحبة والعون.

 

هنا نرى معالجة جيدة لمايكل أنجلو حول تسييس الدين وتحويله إلى مؤسسة هذا إلى أدى إلى ظهور ممارسات متعصبة ولا متسامحة، فهو يرى أنه إلى حد ما إدارة مجموعة دينية قاصرة على قبيلة من البدو والرحل أو قاصرة على فرقة صغيرة، ولكن عندما يعتقد الأمر بعقيدة دينية فى مجتمع كبير، فإن الأمر لا يتعلق فقط بإشباع الحاجات الغذائية، بل تنتظم الواجبات المختلفة بصورة ملائمة، وكذلك لتؤتى المشاركة الجماعية فى الشعائر آثارها الجماعية كاملة تولد هكذا مؤسسة الدين، التى تتخذ أشكالا عديدة، ودرجات، ويؤدى إلى إيجاد منظومة معقدة ودقيقة من الإجراءات حيث يتم تشييد المعابد بصورة تنافسية مع قصور الملوك، ومن ثم نشأت طبقة من الكهنة لإدارة الاحتفالات، ولعقد الزواج، ولمتابعة تنفيذ التعاليم الدينية، ولذلك أصبح الدين "إدارة حقيقية لما هو مقدس" أنجلو يذكر هنا أن تكوين المؤسسات الدينية وفق تنظيمات إدارية يؤدى حتما إلى التسييس.

 

هنا نصل مع المؤلف إلى أكثر النقاط حساسية، والتى تقدم لنا شرحًا وإن لم يكن مستفيضًا، للسلوك اللامتسامح الذى يتسم به كل دين عبر مسار تطوره: حتمية الاتفاق مع السلطة فقد رسخ قديما مبدأ أن كل مرحلة من مراحل الحياة الاجتماعية تحتاج بشكل أساسى إلى البركة الإلهية. فلا يمكن اختيار مغارة لقضاء الليل، ولا يمكن تشييد مدينة، ولا يمكن أن تتحرك الجنود إلى الحرب دون نيل علامات الرضا من الآلهة أولا، ومن ثم كان اتحاد العرش والمذبح لا غناء عنه.

 

 

وكثيرًا ما كانت تتمثل، وتتحد مهام الرئيس، والكاهن فى الشخص ذاته، وإذا ما حدث غير ذلك كان يتم تحالف فيما بينهما، تحالف يغذيه ويدعمه كلا الطرفين، من جانب السلطة المدنية بواسطة إجراءات تشريعية تقوى مكانة الكاهن، ومن جانب السلطة الدينية من خلال تعاليم مقدسة تقدس مهمة القائد والزعيم، وقد بلغت هذه العملية ذروتها من خلال تطورين فى كل الثقافات والحضارات: تأليه الحاكم، وفكرة الحساب بعد الموت.

 

إن أروع فقرات هذا الكتاب فقرة كتبها المؤلف تحت عنوان (عدو على المقاس أو تفصيل) يذكر فيه أن هذا العامل النفسى، الذى يعطى للأمر بعدًا ثقافيًا، يتم استثماره من جانب الرؤساء فى المقام الأول، لتقوية التماسك الداخلى. فعندما تبدأ بعض المشكلات الداخلية فى الظهور، وتلوح فى الأفق علامات السخط، ويُخشى من العصيان والتمرد، فإن الدواء الشافى يكمن فى التخويف من تهديد يأتى من الخارج. وكلما تم تجسيد وتضخيم التهديد بفن وحرفية، دخل اللاتسامح الحقيقى فى اللعبة، وتدخل فوبيا الخوف من الأجنبى الساحة، ويتم المبالغة فى هذه الفوبيا كلما بدت الحاجة إلى الدفاع والنجاة واهية ومشكوكا فيها.

 

فقد أجاد من بيده دفة الأمور استغلال هذه التهديدات المشكوك فيها: "التهديد الفارسى” بالنسبة إلى اليونانيين القدماء، و"خطر أهل قرطاجنة" بالنسبة إلى الرومان القدماء، و"الخطر التركى” بالنسبة إلى أوروبا فى عصر النهضة، وشيئًا فشيئًا "الخطر الأصفر"، و"الخطر الأحمر"، و"الخطر الإسلامي"...

 

ولدعوة الشعب ليؤدى ضريبة الدم، ولإقناعه بأن "الموت من أجل الوطن شرف وجد" ولإعطاء مبرر قوى للحرب، يلزم رسم صورة بشعة للعدو قدر الإمكان. فالاستعداد للحرب عند القدماء كان يبدأ بإبراز مشروعيتها، التى تؤكدها الطقوس التى تتساوى مع اتهام يوجه إلى العدو.

 

هكذا كانت طقوس الأعياد الرومانية التى كانت تشبه صراعًا Lite Contstatio حقيقيًا. فالكون كله، آلهة، ونباتات، وحيوانات، وبشرًا، كان يدعى ليكون شاهدًا على أن العدو على خطأ، أى شرير، وكان الجزء الأخير من الطقوس يكمن فى كسر غصن من نبات العناب، وعندما كان يتم كسره يصطبغ باللون الأحمر، ويتم قذفه نحو أرض العدو (رمز لإلقاء اللوم والذنب عليه) بالصيغة المقدسة: " إذا كان لجوئى إلى السلاح غير صحيح، فدعائى على نفسى أن لا أرى وطنى ثانية".

 

وفى ندوة بهارفارد حول موضوع "حل النزاع" بدأ أحد المشاركين حديثه بهذه القصة: "سأل أحد المكتشفين عجوزًا بقبيلة إفريقية عن الخير والشر من وجهة نظره، فأجابه بقوله: إذا هاجمت قبيلتى القبيلة المعادية وسبت نساءها، وأنعامها، فهذا عمل خير، أما إذا هاجمت القبيلة المعادية قبيلتنا، وسبت نساءنا وأنعامنا، فهذا عمل شرير".

 

ويذكر أنجلو أنه علن بعد أن نشحك بما فيه الكفاية، نفكر فى الأمر بعض الشيء. ألا نجد نفس هذه الطريقة فى رؤية الأشياء على مدى التاريخ الإنسانى كله، وأيضًا فى تاريخنا المجيد "الغربي"، على حساب تحسين النظام الاجتماعى، وأنماط السلوك، العدو دائمًا على خطأ؛ كل ما يفعله بنا بغيض وممقوت، وكل ما نفعله نحن به مقدس.

 

فالأنظمة الدكتاتورية هى أنظمة عسكرية، وتجعل من كره العدو، ومن ثم من الخصال الحربية، شغلها الشاغل وأساس شعبيتها، فبالنسبة إلى هتلر، لم يكن فقط اليهود أو الغجر، ولكن أيضًا السلاف، بالتالى الروس كانوا "تحت مستوى البشر"، يجب قهرهم دون هوادة. وفور بدء "عملية برباروسا" التى تخرق تحالف ريبنتروب- مولوتوف، التى كانت تجعل من الاتحاد السوفيتى "العدو البلشفي"، أسرع الفوهرر بإعلان أن هذه الشعوب كان يمكن أن تستعبد، أو يتم استئصالها دون رحمة.

 

ولم تبتعد الفاشية الأكثر "إنسانية" عن هذه القاعدة، ففى أثناء الحرب العالمية الثانية كنت أدرس فى المدرسة الابتدائية بروما (بدأت كابن للذئبة التى أرضعت ريمو، ورومولو مؤسسى روما حسب الأسطورة، وترقيت فى المؤسسة الفاشية Balilla). وما زلت أذكر الرسوم الملونة فى كراساتى التى كانت تخصص لهذا "العميل الإنجليزى” أو ذاك (على سبيل المثال الأدميرال نيلسون الذى كان يعلق الوطنيين بنابولى على أعواد المشانق)، وتحت هذه الرسومات كتبت واحدة من العبارات "التاريخية" لبينيتو موسولينى وبحروف جميلة: "لا يمكن خوض الحرب دون كره العدو". ويصف إيتالو كالفينو، الذى يكبرنى بنحو عشر سنوات، تجربته كطليعى فى مدينة منتونة Mentone فى تلك الفترة، وهى مدينة تقع فى ما وراء الحدود، فى أرض كان يطلق عليها قبل ذلك "الشقيقة اللاتينية"، والآن هى واحدة من الأعداء الجدد: "يا أولاد – يقول الضابط للشباب الذين ينتشرون عبر المدينة المهجورة التى تم غزوها فور إعلان الحرب، والتى تم نهبها من قبل القوات الفاشية- لا يجب أن ننسى، أن هذه مدينة مفتوحة، وأننا المنتصرون. فكل ما هو موجود ملك لنا، ولا أحد يستطيع أن يقول لنا شيئًا".

 

أما حكومات البلاد الحرة والديمقراطية، فلها وسائل أقل وحشية، وأكثر نعومة وتطورًا، ولكن هذه الحكومات لا تتردد هى الأخرى فى وصف أى موقف متفاهم جدًا تجاه "العدو" بأنه ضد الوطن، والذى ينسحب شيئًا فشيئًا على أى شخص لا يتقاسم معنا أسس طريقتنا فى الحياة Way of life.

إن مسئولية التعذيب فى العراق، على يد العسكريين الأمريكان والبريطانيين (كى أذكر فقط أوضح مثال فى التاريخ الحديث) يمكن أن نرجعها تقريبًا إلى أعلى درجة فى سلم القيادة، ولكن تعود فى جزء منها على الأقل إلى الدعاية التى تهدف إلى تبشيع صورة الخصم، وتصويره على أنه شيطان، ومن ثم فلا يكفى فقط سجنه، بل التعذيب يصبح وسيلة مقدسة، مثل محاكم التفتيش تمامًا.

 

ولاختراع وتضخيم تهديد العدو بصورة ملائمة، وتعبئة الجماهير ضده عند النقطة الصحيحة، أى النقطة التى لا يكون فيها أى تردد فى التضحية بالحياة، وانتهاك حرمة "لا تقتل"، فلا يكفى أن يكون لدى القادة كاريزما وأدوات دعاية ومهارة فى تزييف المعلومات فحسب، بل يلزم أن يكون هناك شحنة أيديولوجية هائلة تستطيع أن تجعل الأوامر العسكرية بمثابة أوامر إلهية، أى يلزم أن يكون هناك دائمًا يقين مطلق.

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة