روى الدكتور فاروق الباز الخبير الدولى بعلوم الفضاء وعضو المجلس الاستشارى العلمى لرئيس الجمهورية، قصة مشروع ممر التنمية على مدار أكثر من 45 عاما، حيث ترجع بدايات دراسته للصحراء الغربية بالتصوير الفضائى إلى عام 1973 فى عهد الرئيس السادات، حيث كان يرغب فى تنفيذ مشروع تعمير الصحراء، وطلب منه دراسة الصحراء الغربية بالتصوير الفضائى.
وقال الباز خلال ندوة عقدها المركز المصرى للدراسات الاقتصادية اليوم الخميس، بعنوان: "الاستثمار فى مستقبل مصر.. أفق تعمير الصحراء"، أنه كان يعمل فى مشروع الفضاء أبوللو عام 1972 وكان دوره تحليل الصور الفضائية للقمر لاختبار مكان هبوط المركبة الفضائية حتى لا تتعرض لمشكلات، ثم تولى العمل بمشروع فضائى آخر مع وكالة ناسا فى السنة التالية، وفى عام 1973 بدأ التفكير فى استخدام تقنية التصوير الفضائى للأرض لاكتشاف طبيعتها الجيولوجية، وهو نفس الوقت الذى كان يفكر فيه الرئيس السادات فى مشروع تعمير الصحراء لأنه كان مهموما بالزيادة السكانية.
وعاد الباز إلى جامعته "عين شمس" ليتولى مع فريق بحثى من الجامعة دراسة الصحراء الغربية، بتمويل كامل من الولايات المتحدة حيث خصصت وكالة ناسا 250 ألف دولار سنويا للدراسات، وتم شراء المعدات والسيارات وبدأ العمل فى الصحراء الغربية.
ومن خلال 65 صورة فضائية للصحراء الغربية، تم كشف وجود حياة كاملة على نهر كبير، وطين بعمق 24 قدم مكان النهر القديم، ووادى كبير الحجم بعرض 200 كيلومتر مربع، وواديان آخران عرض كل منهما 8 كم و12 كم، كما أن دلتا النيل الحالية كان يسبقها دلتا أخرى فى الصحراء الغربية ولكنها تحركت تزامنا مع حركة قارة أفريقيا بالكامل شمالا مبتعدة عن خط الاستواء، وهو ما يعود تاريخه لحوالى 1 – 6 مليون سنة، وفى تلك الفترة كان هناك أمطار غزيرة فى هذه المنطقة تكونت من خلالها مياه جوفية تكفى مصر لمائة عام بشرط الاستخدام الرشيد للمياه والزراعة بالطرق الحديثة، وهى مياه نظيفة باردة على بعد 75 – 300 متر.
ولم يكن هناك إمكانية لنقل الحياة البشرية إلى الصحراء مرة أخرى لأن الإنسان المصرى بطبيعته يحب العيش بجوار نهر النيل منذ عصر الفراعنة، وإذا انتقل سيعود مرة أخرى إلى نفس المكان، لذا قاده التفكير فى مشروع ممر التنمية وهو ممر رئيسى بطول 1200 متر من شمال مصر إلى جنوبها، ويربطه ممرات فرعية عرضية بوادى النيل وتقم على جانبيه تنمية متكاملة عمرانية وصناعية وزراعية وسياحية.
وأثناء الدراسات تم اكتشاف منطقة فريدة عند سفح الفيوم الشمالى من أكثر مناطق العالم جفافا، اذ يمكن عمل مجمعات للطاقة الشمسية عليها تكفى كهرباء مصر بأكملها، ودرسها خبراء ألمان وعرضوا إقامة مجمع طاقة على مساحة 50*50 كم تكفى إمداد مصر بالطاقة الكهربائية والتصدير إلى أوروبا ولكنها لم تنفذ، وقال الباز: "لدينا ثروات هائلة لا نفكر فيها أو ننظر إليها".
وأشار الباز إلى وجود منطقة غرب كوم امبو فى أسوان واسعة جدا، بها تكوين سمكه 5 أمتار من التربة النيلية كانت دلتا قديمة، فيها خصوبة هائلة جدا يمكن على الأقل نقل نصف مليون فدان منها بقشط طبقة سمكها 2 متر من التربة الخارجية الخصبة إلى مكان آخر وزراعته، ويتبقى بها طبقة خصبة سمكها 3 أمتار أخرى، ورغم كل هذه الامكانات لهذه المنطقة فلا يتم الاستفادة منها.
وقال العالم الكبير، أن المساحة العمرانية التى يوفرها ممر التنمية تقدر بحوالى 10.5 مليون فدان، جزء منها يمكن زراعته، ويمكن عمل مجتمعات صناعية وسياحية وغيرها.
وقال الباز إنه ظل 13 عاما يحاول إقناع وزير الزراعة الأسبق يوسف والى بإقامة زراعات على المياه الجوفية فى الصحراء الغربية، ولكنه رفض تماما إنفاق أموال فى "الأراضى الصفراء".
وأضاف: ممر التنمية شهد منذ طرح الفكرة فى الثمانينات وحتى الآن أكثر من دراسة جدوى اقتصادية للمشروع بدأتها مجموعة بيكتل العالمية، وقدرت التكلفة الاستثمارية لهذا المشروع فى ذلك الوقت نحو 6 مليارات دولار تستغرق 10 سنوات على الأقل، وبعد ذلك خضع المشروع لدراسة جدوى أخرى فى عهد أحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق لنحو 5 سنوات وتم تقدير التكلفة الاستثمارية الخاصة به بنحو 23 مليار دولار.
وقال الباز إن هناك اعتقاد سائد بأنه ينتظر الحكومة لتنفيذه وهذا اعتقاد خاطئ، مؤكدا أن الحكومة لا تستطيع تنفيذ هذا المشروع، بل يحتاج إلى مؤسسة خاصة تعمل على تبنى هذا المشروع من الناحية المالية والإشراف حتى تستطيع إدارة الفكرة بالشكل المطلوب وتحقيق العائد منه على المدى الطويل، علما بأن المشروع سيحقق عوائد اقتصادية كبيرة جدا ولكن على المدى الطويل.
وأكد الباز أن مشروع ممر التنمية لا يجب أن يكون خارج الإطار الحكومى بشكل مطلق، بل يجب أن يوضع هذا الممر فى إطار برامج وخطط الحكومة المستقبلية الخاصة بالزراعة والصناعة والسياحة وكافة المجالات الاقتصادية الأخري، على أن يتمتع فقط بالاستقلالية عن الحكومة من الناحية التنفيذية.
من جانبه عرض الدكتور صلاح الحجار استاذ الطاقة والتنمية المستدامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، رؤيته لتطوير وتنمية صحراء مصر الشرقية، مؤكدا أنه يمكن زراعة العديد من المحاصيل باستخدام المياه المالحة من خلال تطوير البذور المستخدمة فى الزراعة، مشيرا إلى تجربة الصين فى زراعة الأرز بالمياه المالحة ونقل تجربتها إلى الإمارات وإسرائيل.
وقال الحجار: 97% من المياه الموجودة على سطح الأرض هى مياه مالحة، و3% فقط مياه عذبة، وتصل نسبة الأنهار من المياه العذبة إلى 1% فقط، وتشكل المياه الجوفية 22% منها، فى حين تشكل جبال الجليد 77% من المياه العذبة فى العالم، لذا أصبحت تنمية الدول باستخدام المياه المالحة توجها عالميا فى الوقت الحالى.
وأشار أستاذ التنمية المستدامة إلى نجاح هولندا فى زراعة البطاطس باستخدام المياه المالحة، بالإضافة إلى زراعة نبات آخر يدعى "سيركونيا" فى أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، ويستخرج من بذوره زيوتا عالية الجودة، وأيضا شجر المانجروف الذى يستخدم أوراقه كعلف للحيوانات، وخشبه يستخدم فى تصنيع الخشب الصناعى.
وبحسب الحجار فإن مصر وصلت إلى مرحلة الفقر المائى حيث انخفض نصيب الفرد من مياه نهر النيل من 1000 متر مكعب سنويا إلى 650 متر مكعب سنويا من المياه العذبة، وهو ما يتطلب التوجه نحو استخدام المياه المالحة فى التنمية بالصحراء الشرقية وعمل مجتمعات عمرانية متكاملة صناعية وسياحية وزراعية باستخدام المياه المالحة.
وعلق الدكتور أحمد فكرى عبد الوهاب عضو مجلس إدارة الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس فقال: المشروعات طويلة الأجل فى مصر تفتقر إلى الرؤية الواضحة، وهناك غياب لحق الأجيال القادمة فى رؤية الدولة، متسائلا: من هى الجهة المعنية بالنظر إلى الخطط طويلة الأجل التى تراعى حقوق الأجيال القادمة؟
وطالب طارق توفيق بان يتم التعامل مع التحديات وفقا لمنطق الجدوى الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بأزمة المياه، حيث إنه من الممكن أن تكون الفرصة متاحة لزراعة محاصيل ذات جدوى اقتصادية في الداخل وتصديرية تدر عائدا ماديا لشراء القمح من الخارج بدلا من زراعته في مصر، آخذا في الاعتبار حجم الفاقد الذى تتعرض له المياه المستخدمة في الزراعة بل وأيضا حجم الفاقد من المحاصيل الزراعية.
وشددت الدكتورة عبلة عبد اللطيف المدير التنفيذى ومدير البحوث بالمركز على أهمية مشروع ممر التنمية، الذى وضع خطة متكاملة واستراتيجية لتنمية الصحراء الغربية، وأهمية دراسة تكلفته الاقتصادية فى الوقت الحالى لأن الكثير من المتغيرات حدثت منذ وضع المشروع، وتغيرت الخريطة المصرية بالكثير من المشروعات المتفرقة، مثل المدن الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة، متسائلة: هل تسير هذه المشروعات المتفرقة فى نفس سياق مشروع ممر التنمية وتحقق نفس الهدف أم لا؟
وطالبت عبد اللطيف بأن يكون تنفيذ مشروع ممر التنمية مربوطا بكافة خطط الحكومة لتحقيق التكامل المطلوب بين أهداف المشروع علي المدي الطويل، وخطط الدولة على اختلاف القطاعات التي يشملها المشروع، حتى وإن كان المسئول عن المشروع جهة مختلفة تماما عن الحكومة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة