تأسيس جديد للمملكة.. محمد بن سلمان.. السعودية بالألوان الطبيعية .. ولى العهد السعودى يغير الخريطة الاقتصادية والاجتماعية للمملكة .. ورؤية 2030 ترسم استراتيجيات مرحلة ما بعد النفط .. ومشروع «نيوم» رهان تنموى

الأحد، 07 أكتوبر 2018 11:00 ص
تأسيس جديد للمملكة.. محمد بن سلمان.. السعودية بالألوان الطبيعية .. ولى العهد السعودى يغير الخريطة الاقتصادية والاجتماعية للمملكة .. ورؤية 2030 ترسم استراتيجيات مرحلة ما بعد النفط .. ومشروع «نيوم» رهان تنموى محمد بن سلمان
حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
 
اليوم السابع بلس
 

- وضع خطة لإطلاق عدد من دور العرض السينمائى فى أنحاء المملكة وتوقيع بروتوكول مع فرنسا لتدشين أوبرا وأوركسترا

 

- ظهرت المرأة السعودية فى المدرجات وقاعات السينما وخلف مقود السيارة دون صدام مع المتشددين لإقرار هذه الحقوق

 

- مشروع «نيوم» رهان تنموى ونافذة استثمارية للإعلان عن الوجه الحضارى الجديد

 

- خلق حالة من التوازن بين سلطة هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والأطر القانونية فى المملكة

 
سار الشاب الذى لم يبلغ السادسة والعشرين فى ستين رجلا، من الكويت إلى الرياض، لانتزاع عاصمة الدولة السعودية من أميرها التابع لآل رشيد، حكام جبل شمر. كان الأمر يبدو مغامرة مجنونة وخائبة، لكن التاريخ يؤكد دائما أن الأمور المفصلية فى هذا العالم تصنعها المغامرات. وبالفعل نجح عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود فى انتزاع الرياض، واضعا النواة الأولى للدولة السعودية الثالثة. بين انتزاع الرياض فى يناير 1902، وإعلان تأسيس المملكة العربية السعودية فى سبتمبر 1932، خاض عبدالعزيز آل سعود معارك شرسة مع آل رشيد، ومع القبائل المتمرّدة على فكرة الدولة المركزية، بدأت الرحلة بالرياض والمناطق الواقعة جنوبها، ثم القصيم بعد ثلاث سنوات تقريبا، وصولا إلى إخضاع كامل أراضى نجد فى العام 1921، ليصبح الأمير الذى بدأ الرحلة شابا فى السادسة والعشرين سلطانا على نجد فى السابعة والأربعين، ومؤسِّسا للدولة الموحَّدة على كامل أراضى شبه الجزيرة العربية فى الثامنة والخمسين من عمره، وطوال هذه الرحلة استفاد من دروس الدولتين السعوديتين الأولى والثانية «الدرعية 1744/ 1818 - الرياض 1818/1891».
 
محمد بن سلمان
 
 
لم ينكفئ عبدالعزيز آل سعود على نفسه مكتفيا باستتباب الأمر فى عاصمته، ولم يراهن على ولاء القبائل المتبدّل تبعا للظروف، دون عمل جاد لتثبيت هذا الولاء، ولم يصرف نظره للأمور العسكرية متجاهلا الدوائر الاقتصادية والاجتماعية ودورها فى تدعيم سلطة الدولة. دعم الأمير موقفه بمزيد من الروابط والمصاهرة مع القبائل الكبرى المتحكمة فى خريطة نجد والحجاز، وأمسك بالمفاتيح الاقتصادية المهمة فى القصيم والأحساء وغيرهما، واشتغل على تعزيز موارد المملكة الوليدة دون اكتفاء بعوائد الزراعة والتجارة والحج، اكتمل له الأمر باكتشاف الثروة النفطية، ووضع مخططا مُحكما لدولة مركزية يُستبدل فيها الولاء للمؤسسات بالولاء للأفراد، كانت هذه التحركات مؤشرا واضحا على تجنب مصير الدولتين السابقتين، والانطلاق فى مسار ثابت ومحسوب. باختصار وعى الملك المؤسِّس أن دولة جديدة تحتاج تأسيسا جديدا، وأن الإصدار الثالث لا يمكن أن ينجح إذا لم يتخل عن ثغرات الإصدارين السابقين، وهذا بالضبط ما يفعله ولى العهد محمد بن سلمان الآن.
 
 

الدولة الثالثة والجيل الثالث

 
قضت شبه الجزيرة العربية قرونا عديدة فى طور الإمارات الصغيرة المتفرّقة، فبعد انتقال مركز الحكم من مكة والمدينة إلى دمشق وبغداد، وتبدّل الولاية من الخلافة الراشدة إلى الدولتين الأموية والعباسية، لم تتحقق فكرة الدولة المركزية الموحدة فى نجد والحجاز، لاحقا تعمّقت المشكلات والصراعات مع توسّع الدولة العثمانية وسيطرتها على المنطقة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، لكن سوء الأوضاع تحت حكم العثمانيين أنعش فكرة البحث عن مظلة وطنية واسعة فى نجد، وأخذت الفكرة فى النمو حتى تحققت بتأسيس الدولة السعودية الأولى فى الدرعية سنة 1744، وبسبب تعقيدات السياسة والتهاب خريطة المنطقة سقطت هذه الدولة فى 1818 لتتأسس الدولة السعودية الثانية فى العام نفسه متخذة الرياض قاعدة للحكم، لكنها سقطت هى الأخرى بعد 73 سنة أمام هجمات آل رشيد المدعومة من الأتراك، قبل أن يستعيد عبدالعزيز آل سعود الرياض إيذانا بولادة الدولة السعودية الثالثة فى 1902، ونتيجة الخبرات المتراكمة، ونضج فكرة الدولة المركزية، نجح الملك عبدالعزيز فى توحيد شبه الجزيرة وإعلان المملكة العربية السعودية فى 23 سبتمبر 1932.
 
محمد بن سلمان
 
 
 
احتاجت فكرة الدولة المركزية الموحدة تجربتين متوسطتى النجاح وقرابة 188 سنة للتحقق. واحتاجت الفكرة بعد تحققها 86 سنة وجيلين من الحكام للنضج والثبات، فمنذ الانطلاق فى 1932 تعاقب على الحكم سبعة ملوك من جيلين، الأب عبدالعزيز آل سعود، والأبناء سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله وسلمان. وباستثناء الأخير فإنهم جميعا وُلدوا قبل التأسيس، وخلال هذه الحقبة الطويلة أُديرت المملكة فى الإطار التقليدى الذى وضعه المؤسّس، كدولة مركزية تتمتع فيها بعض الفئات بمزايا نسبية، وتستند سياسيا إلى بيعة عامة وولاء للملك، واقتصاديا إلى موارد وعوائد ريعية تحققها التجارة والنفط وخدمة المشاعر المقدسة. كان هذا التصور ضروريا لتثبيت دعائم الدولة وتنقيتها من شوائب الولاءات القبلية وما يتعلق بها من رؤى اقتصادية بدائية، تقايض السيادة والولاء لها بمكاسب ومزايا مباشرة. فى السنوات الأخيرة بدا أن المملكة استنفدت هذه المرحلة وحققت غاية ما ترجوه منها، وأنها فى حاجة لإصدار جديد للدولة الراسخة اقتصاديا وسياسيا، وبطبيعة الحال يحتاج الإصدار الجديد جيلا جديدا، يتوفر على طاقة أكبر لإنجاز مرحلة مغايرة، ويستجيب لخريطة جيوسياسية مختلفة للمنطقة، أنتجها تسارع الإيقاع فى العقود الأخيرة، والأهم أن تكون عقلية تربّت فى حاضنة الدولة الموحّدة، ولا تعلق فى ذاكرتها آثار حروب التأسيس وتبدل الولاءات.
 

روح الشاب وعقلية المؤسس

 
كانت بيعة محمد بن سلمان وليًّا للعهد بالمملكة العربية السعودية قبل أكثر من سنة، بمثابة انتقال ضرورى من الجيل الثانى إلى الجيل الثالث فى الأسرة السعودية، لكن هذا الانتقال لم يكن مجرد تحول شكلى وجسر للعبور بين جيلين مُختلفين فى العمر فقط، كان واضحا منذ اللحظة الأولى أنه تحول فكرى عميق، يمكن التماس حجم ما ينطوى عليه من تغيرات بالنظر إلى النشأة والسياقين الاجتماعى والثقافى. فالأمير المولود فى صيف العام 1985 لا يُمثل اقترابا عمريا وزمنيا فقط من السياق الراهن وتبدلات المجتمع العالمى. الخلفية القادم منها تبدو مختلفة عن مجتمع الأمراء التقليدى، فقبل بروز شخصية الأمير سلمان بن عبدالعزيز باختياره وزيرا للدفاع فى العام 2011، قضى الرجل أكثر من نصف القرن أميرا لمنطقة الرياض على فترتين، ولطبيعة العاصمة المنفتحة نسبيا، وحجم ما توفره لأميرها من فسحة فى الوقت والطاقة، أنفق الأمير سلمان- الذى أصبح ملكا فى يناير 2015 - قدرا كبيرا من طاقته فى تربية أبنائه، يبدو هذا واضحا بالنظر لشخصية الأمير سلطان بن سلمان الذى يُعد أول رائد فضاء عربى، أو الابن الأصغر محمد الذى يملك عقلية منفتحة وعصرية، رغم دراسته فى المملكة على غير المعتاد بين الأمراء وأفراد الأسرة المالكة، ويفسر هو نفسه هذا الأمر بما وفره له الوالد من كتب ومطبوعات، وما عاشه معه من نقاشات وحوارات. حسبما قال فى لقاء جمعه بنخبة من المثقفين والإعلاميين إبان زيارته لمصر فى مايو الماضى.
 
محمد بن سلمان
 
 
فى هذا اللقاء الذى احتضنه منزل السفير السعودى بالقاهرة، بدا الأمير محمد بن سلمان شخصا واسع الاطلاع والمعرفة، لديه مخزون كبير من القراءات المتنوعة، يفهم تعقيدات المنطقة وأطر الصراعات المحتدمة داخلها، والأهم أنه يملك رؤية عصرية مكتملة لواقع المملكة وآليات التحرك بها نحو إصدار اجتماعى واقتصادى وثقافى جديد.
كان هذا محتوى شهادات كثيرين ممن حضروا اللقاء، وكتبوا وتحدثوا عنه لاحقا، فيما يشبه الإجماع على امتلاك ولى العهد السعودى رؤية ناضجة فيما يخص السياق الداخلى، والأوضاع الإقليمية والدولية، والمسارات العاقلة للتفاعل مع هذه الدوائر أو مناورتها والاشتباك معها أحيانا.
 
فى المستوى العملى حضر محمد بن سلمان حضورا مبكرا وقويا فى المشهد السياسى السعودى، بدأ الأمر بتعيينه مستشارا ضمن هيئة خبراء مجلس الوزراء قبل أن يُكمل عامه الثانى والعشرين، وقتها لم يكن ممكنا الحديث عن استثناء أو محاباة بينما كان والده أميرا للرياض ولم يكن وزيرا ولا وليًّا للعهد، وخلال فترة حكم الملك عبدالله أصبح الأمير الشاب مستشارا ورئيسا لديوان ولى العهد، ومشرفا على مكتب وزير الدفاع، ووزير دولة بمجلس الوزراء السعودى. وتواصل تدرّجه الناعم وصولا إلى اختياره وليًّا لولى العهد فى 2015، ثم وليًّا للعهد عقب تنازل الأمير نايف فى صيف 2017. وبجانب ولاية العهد يشغل موقع نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، ورئاسة مجلسى الشؤون السياسية والأمنية، والشؤون الاقتصادية والتنمية.
 
محمد بن سلمان
 
 
فى رحلته العملية بين 2007 والآن، يبدو محمد بن سلمان أميرا بدرجة باحث عن المعرفة، وقائدا من الصفوف الخلفية، يعى الشاب الذى أكمل عامه الثانى والثلاثين قبل شهرين أن ولايته للعهد ربما تكون صنيعة الدم والرحم اللذين ينتمى إليهما، لكن جدارته بالولاية والعهد فى واقع متغير وسياق عالمى آخذ فى التسارع والتبدل، لا يمكن أن تتأسس إلا على وعى عميق بالدولة السعودية ومكوناتها، بما تملكه من طاقات وما تطمح إليه من إنجازات، والأهم من هذا الوعى بحاجة المملكة لإصدار ثالث يُجدّد شبابها، مثلما كانت الدولة الثالثة نفسها، التى أسسها جده عبدالعزيز قبل ست وثمانين سنة، تجديدا لشباب الدولتين السعوديتين فى الدرعية والرياض، يبدو محمد بن سلمان طوال الوقت مُخلصا لهذا التصور ومُتحرّكا فى إطاره، وكأنه مزاوجة بين التأسيس والهيكلة، أو وجه سياسى عصرى بروح الشباب وعقلية المؤسس.
 

رؤية السعودية 2030

 
فى الوقت الذى يلعب فيه النفط دور البطولة فى اقتصاد المملكة، تقطع الرؤية الناضجة بأن هذا الهيكل الاقتصادى يحتاج تدخلا تصحيحيا، فى ظل ما تملكه السعودية- بالمساحة الشاسعة والموارد الطبيعية والمزايا الجغرافية- من إمكانيات وفرص كبيرة. فى هذا الجانب يقف الأمير محمد بن سلمان منحازا لفكرة تحرير اقتصاد المملكة من سيطرة النفط، وفق رؤية ديناميكية للتعامل مع خريطة الإمكانات والفرص، كان هذا التصوّر البراجماتى المتطوّر واضحا بقوة مع دراسة فكرة طرح حصة من عملاق النفط العالمى «شركة أرامكو» للتداول فى البورصات العالمية، ثم اكتشاف أن هذا الطرح وفق الصيغة الحالية قد لا ينطوى على استغلال أمثل للموارد، فكان العدول عن هذا الأمر مؤقتا لصالح دراسة التوسع فى أنشطة البتروكيماويات والصناعات التحويلية، وتأسيس شركات فرعية تابعة لـ«أرامكو»، ومؤخرا دراسة استحوذها على شركة «سابك» العاملة فى مجال البتروكيماويات، تمهيدا لطرح %5 من أرامكو فى اكتتاب تبلغ قيمته 100 مليار دولار. جاءت هذه المراجعة رغبة فى تعظيم العوائد والقيمة المضافة من الصناعات المرتبطة بقطاع الطاقة، وبالدرجة ذاتها كانت تأكيدا لديناميكية الرؤية السعودية الجديدة وقدرتها على التقصى والبحث وتعديل المسار بوتيرة متسارعة. فى الوقت نفسه ترافقت مع هذه النظرة خطة اقتصادية واسعة لتأسيس حاضنات استثمارية وتنموية أخرى، تراهن على أنشطة ومشروعات تُقلّص حصة النفط ضمن الناتج القومى، لصالح الارتقاء بحصص الصناعة والطاقة المتجددة والسياحة والخدمات اللوجستية.
 
محمد بن سلمان
 
فى إبريل 2016 أعلن الأمير محمد بن سلمان، بصفته رئيسا لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، تفاصيل «رؤية السعودية 2030» وهى خطة اقتصادية وتنموية لمرحلة ما بعد النفط، تزامن إعلان محاورها مع تسليم 80 مشروعا حكوميا عملاقا بميزانيات استثمارية إجمالية تتجاوز 500 مليار ريال «قرابة 140 مليار دولار»، كان بينها مشروع مترو الرياض. وارتكزت الخطة على تحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى صندوق سيادى بأصول 2.5 تريليون دولار ليصبح أضخم الصناديق السيادية الدولية بحصة %3 من الأصول العالمية و%10 من القدرات الاستثمارية فى العالم، والتحرر من النفط بزيادة الإيرادات غير النفطية من 43.5 مليار دولار إلى 267 مليار دولار سنويا، وزيادة الصادرات غير النفطية من 16 إلى %50 لتتمكن المملكة من البقاء كقوة اقتصادية مستقرة حتى مع تراجع سعر النفط إلى ما دون 30 دولارا للبرميل، إضافة لتطبيق نظام البطاقة الخضراء لتسهيل الإقامة ودعم الاستثمار الخارجى بالمملكة، وزيادة اجتذاب المعتمرين من مستوى 8 ملايين حاليا إلى 30 مليونا وزيادة القدرة الاستيعابية لموسم الحج، مع زيادة مساهمة القطاع الخاص فى الناتج المحلى من %3.8 إلى %5.7، وتقليص البطالة من %11.6 إلى %7، وزيادة حصة المرأة بالوظائف العامة والخاصة من 22 إلى %30.
 
كما تتضمن الخطة إنشاء شركة قابضة للصناعات العسكرية، وهيكلة قطاع الإسكان بغرض زيادة نسبة تملك السعوديين، وتعزيز جهود مكافحة الفساد من خلال اللجنة التى يرأسها ولى العهد، ومنذ اللحظة الأولى بدت جدية الخطة من خلال إجراءات اللجنة الحاسمة فى التعامل مع الفساد، والقضية الشهيرة التى أوقفت فيها عددا من رجال الأعمال والأمراء ووزيرا بالحكومة فى نوفمبر من العام الماضى، بسبب اتهامات فساد وشبهات مالية.
 

نيوم وواقع اقتصادى جديد

 
ضمن محاور رؤية 2030 أعلن ولى العهد السعودى فى 24 أكتوبر 2017 عن مشروع نيوم،  يُعنى اسم المشروع وفق اختصارات اللغة اللاتينية «المستقبل الجديد»، وبحسب الإشارة العامية له باسم «نويسا»، فإنه يشير إلى شمال غربى المملكة، المشروع عبارة عن مدينة استثمارية متكاملة على مساحة 26 ألفا و500 كيلو متر مربع، بين ثلاث دول «السعودية ومصر والأردن» وباستثمارات مبدئية 500 مليار دولار بدعم من صندوق الاستثمارات العامة السعودى.
 
تملك المدينة الجديدة امتدادا شاطئيا على البحر الأحمر وخليج العقبة بطول 480 كيلومترا، وبجانب موقعها المهم الرابط بين أفريقيا وآسيا والقريب من أوروبا، يستطيع أكثر من %70 من سكان العالم الوصول إليها فى غضون 8 ساعات أو أقل، إضافة إلى 12 مدينة متنوعة و6 تجمعات حضرية فى الوديان والجبال، وميناء ضخم، و3 مطارات صغيرة ومطار دولى كبير، ومنطقة صناعية ضخمة. وبهذه المساحة والمزايا تراهن المدينة على حيز استثمارى واسع ومتنوع، بين السياحة والصناعة والطاقة والتعليم، وتتأسس خطتها على 9 قطاعات «الطاقة والمياه، والنقل، والتقنيات الحيوية، والغذاء، والعلوم التقنية والرقمية، والتصنيع المتطور، والمعيشة، والترفيه، والإعلام»، وبحسب المخطط الفنى تنتهى المرحلة الأولى فى 2025، ومن المتوقع أن تسهم المدينة بـ100 مليار دولار من الناتج الإجمالى السعودى بحلول 2030.
 
محمد بن سلمان
 
 
من المنظور الاقتصادى يصعب تخيل إعادة هيكلة مجتمع من المجتمعات، وتغيير علاقات الاقتصاد داخله، دون هيكلة ثقافية تُمثّل الحاضنة والظهير الداعم لهذا المسار التحديثى، ما يُعنى حاجة «نيوم» و«رؤية المملكة 2030» لسياق اجتماعى وثقافى منفتح، وظهير واعٍ يعزز هذه الرؤية ويدعم عملية إعادة إطلاق طاقات المملكة وأهدافها فى مسار آخر، لا تبدو هذه النقطة غائبة عن ذهن ولى العهد السعودى، فبجانب النشأة الأسرية التى فتحت له بابا واسعا للقراءة والمعرفة بقدر أكثر انفتاحا من السياق الذى تسمح به بيئته المحيطة، يعى الشاب صاحب الرؤية التحديثية المغايرة أن الرهان على الثقافة واجب ضرورى لإنجاح رهانات الاقتصاد، ووفق هذه الرؤية لعب دورا مهما من موقعه السابق كمستشار لولى العهد الأمير سلمان، ثم موقعه كولى للعهد لاحقا، فى إحداث تغيرات جوهرية فى البنية المعرفية والثقافية للمجتمع السعودى، والتدرج فى هذه التغيرات بشكل لا يجرح القيم التقليدية للمجتمع وتوجهاته المحافظة، بغية إنتاج سياق تنويرى نابع من تفاعلات الآراء والتوجهات المكونة لمجموع الخريطة الاجتماعية، دون تغليب توجه على آخر، هذا الأمر أثمر حالة واضحة من الحراك والتطوّر داخل نسيج المجتمع السعودى خلال سنوات قليلة، ودون أى صدامات مع المراكز المحافظة والمراجع الدينية.
 

سلطة القانون لا سلطة المطوّعين

 
لعقود طويلة سيطرت هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الفضاء الاجتماعى فى المملكة، فى البداية كان الأمر منسجما بقدر ما مع قيم المجتمع السعودى، لكن ثبات رؤية الهيئة وعدم تطورها بشكل ديناميكى يرافق التطور الاجتماعى والثقافى فى المملكة والعالم، كان سببا مباشرا فى بروز مشكلات وصراعات فى السنوات الأخيرة، بدأ ولى العهد السعودى محمد بن سلمان رحلة ضبط هذا السياق المرتبك بخلق حالة من التوازن بين سلطة الهيئة والأطر القانونية، بما لا يسمح للمطوعين ومنتسبى الأمر بالمعروف بالتغول على القانون، وفى وقت لاحق جرى تقديم القانون إلى الأمام وإعادة الهيئة خطوة للخلف، أثمر هذا التحول المرحلى المتدرج سياقا منفتحا سمح باستعادة المواطنين السعوديين لكثير من حقوقهم الشخصية التى كانت غائبة خلف ممارسات المطوعين، هكذا ظهرت المرأة فى المدرجات وقاعات السينما وخلف مقود السيارة، بدأ الأمر بمباراة الهلال والاتحاد التى استضافها ملعب الملك فهد الدولى فى يناير الماضى، ثم فى أول دار سينما بالرياض فى إبريل التالى، ثم تطبيق قرار الملك سلمان الصادر فى 26 سبتمبر 2017 بالسماح للسعوديات بقيادة السيارات اعتبارا من يونيو 2018.
 
لم يكن هناك أى مانع قانونى أو دينى لحضور المرأة مباريات كرة القدم، لكن الأمر لم يحدث من قبل فى تاريخ السعودية، والمسألة نفسها مع قيادة النساء للسيارات، التى ظلت ممنوعة دون سبب قانونى، وكذلك فيما يخص دور العرض السينمائى، التى كانت موجودة من قبل وتعرضت للإغلاق والحظر فى فترة مدّ للأفكار المتشددة خلال سبعينيات القرن الماضى، قبل أن تعود فى إطار خريطة التوجهات الإصلاحية التى ينفذها محمد بن سلمان، لكن النقطة الأهم فى الأمر أن السعودية وصلت إلى هذه المحطة بنعومة، فالمراجع الدينية وهيئة كبار العلماء أيدوا هذه القرارات ولم يصطدموا معها، ليس فقط لأنها لا تخالف صحيح الرؤى الدينية، ولكن لأن القيادة السياسية فى المملكة لم تعتمد الصدام لإقرار هذه الأمور، وإنما تدرّجت فى تغذية تفاعلات المجتمع السعودى واستقبال رسائله وإعادة بناء تصور موضوعى عن الدولة المركزية المستندة للقانون والدين والعُرف، دون افتئات مكون من هذه المكونات على الآخر.
 
محمد بن سلمان (2)
 
 
بإنجاز خطوة التحرير الأولى أصبح المناخ مواتيا لاستثمار هذه التفاعلات وآثار الوعى المتزايد لدى السعوديين، أعدت وزارة الثقافة والإعلام خريطة واسعة للعروض الفنية والموسيقية فى أنحاء المملكة، استضافت فيها مطربين وموسيقيين وفرقا أوبرالية من مصر وفرنسا ولبنان وغيرها. بجانب وضع خطة لإطلاق عدد من دور العرض السينمائى فى أنحاء المملكة، وتوقيع بروتوكول مع فرنسا لتدشين أوبرا وأوركسترا وطنيين، إضافة إلى تعزيز دور المرأة فى المجال العام واستهداف الوصول بحصتها إلى قرابة ثُلث الوظائف بالمملكة، حسب رؤية 2030. هذه التطورات المتلاحقة تنبئ عن تفاعلات ديناميكية حية داخل المجتمع السعودى، تؤطّرها رؤية ناضجة يعود الفضل الأكبر فيها إلى ولى العهد الشاب. وهو ما قد يسمح للمملكة بالتحول إلى مركز ثقافى وتنويرى إقليمى فى غضون سنوات قليلة، منهية عقودا من المحافظة ذات البنية المغلقة، التى بدّدت كثيرا من طاقات المملكة، وخصمت قدرا غير هين مما كان يُمكن أن تحققه اقتصاديا وسياسيا وتنمويا.
 

رمانة ميزان فى إقليم متأرجح

 
فى السياق الراهن، تبدو المنطقة فى حاجة ماسة إلى قطب موازٍ لمصر، بغرض السيطرة على تأرجح بعض أطراف الإقليم وانفلات أوضاعها، الآن يُمكن القول إن المملكة تتقدم للعب هذا الدور، ففى غضون أقل من أربع سنوات على بروز محمد بن سلمان، نجح ولى العهد السعودى فى تحقيق مكاسب داخلية ملموسة، ولعب أدوارا خارجية مؤثرة، وتدخّل لكبح جماح التمدد الإيرانى فى اليمن ومناطق أخرى مهمة، واتخذ موقفا واضحا ضد دعم قطر للإرهاب وسياسات تركيا المهددة للمنطقة العربية، كما رفض الاتفاق النووى الإيرانى الذى وقعته خمس دول كبرى مع طهران فى ربيع 2015، قبل أن يعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب انسحاب بلاده منه فى مايو الماضى، وعن هذا الأمر قال محمد بن سلمان فى حوار مع وكالة بلومبيرج قبل يومين: «فى وقت سابق لعبت واشنطن ضد أجندتنا ومصالحنا، لكنها فشلت ونجحنا».
 
فى الحوار نفسه، قال ولى العهد السعودى: إن السعودية أقدم من الولايات المتحدة وإنها تدفع مقابل الأسلحة التى تحصل عليها ولن تدفع مقابل أمنها، فى رد واضح على تصريحات سابقة لـ«ترامب» بدت مستفزة وعدائية، وبجانب هذه الرؤية المستقلة، يواصل العمل على محورى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. حصلت المرأة على كثير من حقوقها، وعادت الفنون للازدهار فى أنحاء المملكة، استعادت الدولة ضمن جهود مكافحة الفساد 35 مليار دولار فى قضية «ريتز كارلتون» الشهيرة، وسجلت موازنة 2019 مستوى قياسيا بقيمة 1.1 تريليون ريال، وقضى الملك سلمان إجازته فى «نيوم» التى كانت حلما قبل بضعة شهور فقط. يمضى القطار بسرعة كبيرة وفى وجهة واضحة، بغرض التخلص من الاعتماد شبه الكامل على اقتصاد النفط ببنيته الريعية، وخلق مجتمع منفتح وحداثى قادر على التواصل مع العالم واستيعاب متغيراته.
 
محمد بن سلمان
 
 
مثلما سار الأمير الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من الكويت إلى الرياض قبل 116 سنة، لاستعادة عاصمته وتأسيس الدولة السعودية الثالثة، يسير محمد بن سلمان الآن لاستعادة المملكة من قبضة الرؤى القديمة، ومن سيطرة الأفكار المتزمّتة والمراكز الاجتماعية والدينية المحافظة، أو كما قال لبلومبيرج: «نواجه التطرف والإرهاب دون الدخول فى حرب أهلية، ودون إعاقة النمو»، ربما لا يُعجب هذا التصور التنموى والتحديثى بعض الوجوه المحافظة فى المؤسسة الدينية وعلى أطراف الأسرة المالكة، لكن غالبية السعوديين يُلوّحون للأمير الشاب ويُسرعون الخُطى خلفه، لن يستطيع أحد كبح جماح الرغبة المتأججة فى التطور والتحديث، ولن تقبل عجلة الزمن العودة إلى الخلف، سيواصل محمد بن سلمان وخلفه السعوديون مسيرتهم التى تشبه مسيرة الملك المؤسِّس لاستعادة الدولة، لكنها هذه المرة مسيرة لاستعادة الواقع، والالتفاف حول بؤرة ضوء نابعة من العقل والفكر والتنمية الحقيقية، لا من شعلة نار فوق سارية عالية لحقل نفط. هنا تبحث السعودية عن نفسها، وعن صورة جديدة لها، صورة بالألوان الطبيعية.
 
 
1
 

 

2
 

 







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة