أكرم القصاص - علا الشافعي

جودة بركات

ثقافات ثلاث في مصر يجب أن تختفي

الخميس، 25 أكتوبر 2018 06:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

(1)

تُـطلق الثقافة بمفهومها الشامل والمتطور دلالةً على مجموعةٍ من المبادئ والسلوكيات والقيم والعقائد المطَّردة داخل مجتمع مَّـا، وتظهر آثارها جليًّا في مستوى الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي عند الأفراد المنتسبين لها؛ وعليه تتحدد ملامح هـذه الثقافة أو تلك تطوراً أو تراجعاً؛ تقدماً أو تخلفاً؛ إنسانياً أو لاإنسانياً.

عـزيـزي القارئ – هذه تقدمة ضرورية لما دعاني أن أكتب هذا المقال تحت هذا العنوان في ظل المشاهدات التي نعايشها يومياً في مصر (قلب العروبة ومكنز  الإيمان) خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل، إذْ ترسَّخَ في العقل الجمعيِّ لدى العامة والخاصة (المثقفين وغير المثقفين) أن ظاهرة الشك ثم النكران ثم التشنيع صارت ثقافاتٍ عامة أو أوشكت؛ الأمر الذي قد يوحي ببوادر أزمة إنسانية تستعصي على الحل في مصر، إن لم تتضافر النوايا الطيبة والجهود الخالصة لتلافي عواقبها الوخيمة.

(2)

بُـعيْـد 25 يناير بأيام قلائل بدأت المرحلة الأولى من الأزمة (سيناريو الشك)؛ ابتداءً من رمي اللجان الشعبية بالدسائس، واتهام الشرطة بالعمالة، ووَصْمِ الجيش بالتواطؤ والميكافيلية، والعلماء والمفكرين بالمتحولين؛ بل زاد الأمر ووصل إلى حد وصف جماهير عريضة من الشعب بالكساح والكسل (شعب الكنبة كما أطلق عليه يومئذ).

وكان الأمر لا يعدو كلماتٍ في صحيفة خاصة أو حزبية هنا، أو في برنامج جماهيري (Talk Show) هناك، أو حتى في جلسات السَّمر في القرى والنجوع داخل الغرف المغلقة في برد الشتاء القارس آنذاك، وليس معنى هذا الكلام أن كلَّ تلك الشكوك لا مبرِّر لها لدى أصحابها، أو  أنَّ أصحابها مشكوكٌ في صدق نيتهم وحسن طويتهم، فقد كان الواقع ملتبسًا على العوام والخواص.

ولكن الخطر في الأمر كان يكمن على جانبين:

الأول: أن الرامي بالشك لا يتوقف عند حد، ولا يعرف أنه - أيضاً - قد يكون مشكوكاً فيه، وفيما توصَّل إليه؛ ربما لقصور نظره، وربما لبعد خياله.

الثاني: أن التسرع من كلا الطرفين في استصدار أحكامٍ ظنية، تقوم على براهينَ ظنية ضد الطرف الآخر أدَّى إلى أن تبدأ الثقافة الثانية عملها كنتيجةٍ حتميةٍ ومنطقيةٍ لما آلت إليه الأمور؛ ألا وهي (سيناريو النكران)، وهي أشد خطرًا وأكثر تدميرًا على بنية المجتمع من الثقافة الأولى، إذ إن الأولى لا تعدو أن تكون عمل اللسان، أما تلك فهي عمل الجوارح والأركان.

(3)

تبدأ (ثقافة النكران) عملها عندما تتناسى أطرافُ المجتمع القواسمَ المشتركة بينها، وتتجاهلُ المخزون الماضي من ثقافة الـودِّ والعرفان، وتمحو من ذاكرتها أيـام الخير والرخاء والتضحيات المتبادلة، فلا تقع أعينهم إلا العورات والسوءات، ولا يظنون بأنفسهم إلا شرًّا، فتخور قواهم، وتنشط ذاكرتهم التدميرية في محو الآثار الطيبة للطرف الآخر، ولو كان أبًا حانيًا أو أخًا أو صديقًا وفيًّا أو جارًا ملاصقًا، ظناً من كل طرفٍ بأن الآخر سببٌ في تعاسته وشقاوته، وأنه لولاه لكان أفضلَ ماضياً وحالاً ومآلاً، وينسى كل طرفٍ أنه لولا الطرفُ الآخر لسقطت سنةُ التدافع الكونيَّة، وأن بقاء أحدهما مرهونٌ ببقاء الآخر، ولا يمنع ذلك من بعض السقطات هنا أو هناك؛ فذاك أيضاً سنةٌ كونية وحقيقةٌ بشرية.

ومن هنا:

رأينا بعض الشباب الذي أسَّسَ للثورة وشارك فيها مشاركةً فاعلةً يُبدي ندمه على ما قدَّم، ويتمنى أن لو لم يكن شارك فيها، ورأينا بعض أفراد الشرطة الذين قاموا بواجبهم – حقًّا - في الحماية والدفاع عن أقسامهم وعما كان تحت أيديهم يُـزج بهم بعض الليالي في الأقفاص الحديدية للتحقيق، فيخرجون – مُهَلْهَلين – يتفادون الأعين الَّلامزة، جزعًا مما أصابهم، ورأينا بعض النخبة يتمنى أن لـو أغلق بابه عليه، وما تصدر لمنصبٍ رأى الناس يوماً مَّـا أنه به حقيقٌ وجدير، وذلك بعد أن أنكروا عليه بعض أفعاله التي امتدحوه عليها بالأمس، وما أسى وأسف الشيخ الكهل الدكتور/ كمال الجنزوري أو المهندس الطاعن في السن إبراهيم محلب في كثير من اللقاءات العفوية عن هذا المشهد ببعيد، وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى العتبة الأولى من المحطة الثالثة (سيناريو التشنيع)، ثقافة السباب والتراشق العلني العام.

(4)

عندما يصلُ أفراد المجتمع إلى هذه الثقافة (أو بالأحرى اللاثقافة) فلا بد أن تدرك أن بعض الأطراف قد رَانَ على قلبها، وعميتْ البصائر لديها، ولا تتعجب عندها من أخ يقدِّم رشوةً لصحفي مرموق ليشنِّع على أخيه ابن أمه وأبيه، ولا تندهش ممن يَقتلُ من لا يعرفه، ويوقِّع بالأحرف الأولى من اسمه على صدره بعد قتله في مباراة كرةٍ حربيةٍ ببور سعيد، ولكن تأسَّف على نفسك أن لا تجد ما تُقدِّم، واعلم بأنه يجب عليك أن تشمِّر عن ساعد الجِد للحفاظ على ثقافتك المصرية الأصيلة الراقية التي تحبُّ أن تورثها لأبنائك وأحفادك، وتتحمل قدرًا من واجبك، ولترسم لنفسك مستحيلًا ممكنًا، وهدفًا مزمنًا، تشارك به في إعمار الأرض، وإسعاد الخلق من حولك، واعلم بأن الثقافات الناضجة تُـرسَمُ بالأمل، وتُـصْنَعُ بالعمل، وتُصْقَلُ بالفشل.

وليكن نصب عينيك دائمًا إذا ما تنامى إلى مسامعك أمر أو معلومة أو شائعة عن أي شخص أو جهة الحكمة الخالدة: (لا تصدِّق نصف ما ترى، ولا كلَّ ما تسمع)، ولتجعل للعقل موضعًا في الأمور كلها، فالأمم العاقلة الواعية لا تنتفع بالمنافقين، ولا تستعين بالمرتابين، ولا تثق بالجانجين، ولتعلم أن للكون مدبِّرًا حكيمًا بصيرًا خبيرًا لطيفًا يبسُط سِتره على عباده ما وسعُوا بعضهم بكريم أخلاقهم، واتسعت صدورهم لسنن خالقهم في ملكه وملكوته.

 

كلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر

المدير الإقليمي لمشروع (السلام عليك أيها النبي) بالقاهرة










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة