كتب توفيق الحكيم مقالا بعنوان: «أنا عدو المرأة والنظام النيابى، لأن طبيعة الاثنين فى الغالب واحدة:«الثرثرة».. فغضبت الحكومة وصمم رئيسها محمد محمود باشا على معاقبته،حسبما يؤكد «صبرى أبو المجد» فى الجزء الثانى من كتاب«سنوات ماقبل الثورة»، وتلقى قصة هذا المقال الضوء على حدود الديمقراطية،وطبيعة العلاقة بين المثقفين ودوائر الحكم وقتئذ.
يؤكد«أبو المجد»أن المقال نشره الكاتب الصحفى محمد التابعى فى مجلته«آخر ساعة»بتاريخ 20 أكتوبر«مثل هذا اليوم 1938»،وقال فيه الحكيم:«أقول لكم فى صراحة، إن هذه الديمقراطية كما تفهمونها وتزاولونها فى مصر هى أصلح أداة لتولية الحكم غير الصالح،وأنه ينبغى لكم ألا تنبهروا بالألفاظ الأوروبية ولا تتقيدوا بالنظم الأجنبية،ولا تترددوا فى اتباع ما فيه النفع الحقيقى وترك مافيه الغرم،وضياع الوقت فإذا اتضح لكم يوما أن«البرلمان»وماينفق عليه من آلاف الجنيهات سنويا هو غرم لاغنم فيه،فحولوه فى الحال إلى مصنع طائرات،يحتشد فيه بدل جموع الأعيان الموسورين أفواج العمال المصريين من أولئك المساكين،المتسكعين العاطلين الذين يلتقطون فتات المقاهى والبارات،حتى يعملوا عملا شريفا ويشيدون مجدا خالدا:نعم فلئن كان قد كتب على القبة الذهبية أن تخرج شيئا طائرا فى الهواء فلا ينبغى أن يكون،دائما الصياح والخطب فإذا شعرتم أنكم فى حاجة إلى معمل إنتاج لا إلى معمل كلام،فانهضوا فى الحال إلى تنفيذ ذلك واضعى أيديكم لتغلقوا قليلا هذا الفم الواسع الكبير حينا،المتثائب أحيانا،لتسكتوه الأعوام التى ترونها لازمة كى يتسنى للأيدى وحدها أن تنطلق عاملة فى هدوء ونشاط،فالفم إذا سكت واليد إذا عملت،استطاع الإنسان أن يتقدم أيضًا،وهنا تتلاشى الأحزاب والأحقاد،والأغراض،وتصبح العيون كلها متجهة إلى الرجل،المنتج حقيقة،وعند ذلك تلزم لكم حكومة لابد أن يتوافر فيها هذه الشروط،أن يكون أعضاؤها من أولئك الذين اشتهروا بقلة الكلام وسرعة العمل،وثانيا ألا يكون لأعضائها لون حزبى واضح،ثالثا أن يكون عدد أعضائها قليلا فإن خير إدارة هى الموضوعة فى الأيدى القليلة الخبيرة».
يضيف الحكيم:«الذى أفسد بلادنا هو تعطيل ذوى المواهب يحتشد بعضهم ضد بعض فى اقتتال عنيف مستمر لم يكن له نتيجة غير تحطيم الجميع»..يؤكد أبو المجد،أن«الحكيم»أغضب بمقاله هذا رجال السياسة،وزعيمات النهضة النسائية،وعلى رأسهن هدى شعراوى،ورد الحكيم:«كان غرضى العمل المنتج،وليس الثرثرة الفارغة،وهكذا صرت عدوا للمرأة وللنظام البرلمانى وهى عداوة موقوتة طبعا بأسبابها وتزول بزوالها»..يؤكد أبو المجد:«أن محمد محمود باشا رئيس الوزراء قرر أن يفصل توفيق الحكيم من وظيفته بقرار من مجلس الوزراء،ولكن بعض وزارته–كما قال الحكيم –كانوا من الأدباء والمفكرين من أمثال دكتور محمد حسين هيكل والشيخ مصطفى عبد الرازق،استمهلوه رغبة فى معالجة الأمر بوسيلة أخرى فصاح فيهم:«أنتم أدباء مع بعض وتريدون المماطلة،ولكن إذا لم تنهوا الموضوع بعقاب رادع سريع فى ظرف أسبوع فلابد من إجراء حاسم بواسطة اجتماع مجلس الوزراء القادم».كان الدكتور هيكل هو وزير المعارف،فأحضر المستشار الملكى للوزارة وناقشه فى أمر المقال،وبعد ذلك حادث وكيل وزارته«العشماوى بك»فى أمر العقوبة،حتى يستطيع أن يقابل رئيس الحكومة ويخبره أن العقوبة وقعت وانتهى الموضوع،واقترح أن تكون العقوبة الرادعة وقف مرتب الحكيم عام ونصف عام،فقال له العشماوى بك:«هذا ليس من حق الوزير بل من حق مجلس التأديب».
ينقل أبو المجد عن الحكيم بأن الوزير قيل له:«إن سلطته لاتتجاوز خصم خمسة عشر يوما من المرتب»،فاضطر إيثارا للسلامة أن يلجأ إلى هذا الحل،وحاول أن يقنع رئيس الحكومة بمعاونة الشيخ مصطفى عبد الرازق،وقد كان،ووقع بالفعل هذا الخصم بأمر وزارى،ووقع وزير المعارف«هيكل باشا»على القرار يوم 26 أكتوبر 1938،وتم إبلاغه لتوفيق الحكيم مدير إدارة التحقيقات بالوزارة،ففكر فى الاستقالة.
يؤكد أبو المجد،أن أصدقاء الحكيم رأوا خطأ تقديمه للاستقالة،ورأوا بقاءه فى وظيفته مع استمراره فى مواقفه،وفى تمسكه بآرائه لأن الاستقالة تريحهم،أما بقاؤه مع آرائه فهو الذى يقلقهم،ووفقا للحكيم:«بقيت فى وظيفتى أواصل الكتابة بنفس الروح والاتجاه،وأتصرف فيما يعرض لى من قضايا برأيى نفسه،فما أن يقع فى يدى موظف اتهم فى قضية أورأى سياسى حتى أبرئه،وأحفظ قضيته إلى أن ضجت الوزارة منى، ولم تتعرف كيف تتخلص من هذا إلا بإنشاء إدارة جديدة،إنشاء مفتعلا صوريا أسموها«إدراة التمثيل والموسيقى»،ونقلونى إليها وأنا فى إجازتى صيف 1939،وهكذا صرت مديرا لإدارة لا اختصاص لها على الورق».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة