التجربة التنموية الفيتنامية.. نموذج لثقافة مضادة للانغلاق

الإثنين، 04 سبتمبر 2017 02:02 م
التجربة التنموية الفيتنامية.. نموذج لثقافة مضادة للانغلاق فيتنام
أ ش أ

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تشكل الزيارة المرتقبة للرئيس عبد الفتاح السيسى إلى فيتنام فى سياق جولته الأسيوية الحالية حدثا غير مسبوق فى تاريخ العلاقات بين الدولتين الصديقتين وتعيد للأذهان تاريخا ثقافيا ثريا بقدر ما تنطوى على فرصة لإطلالة على التجربة التنموية الفيتنامية التى تحظى باهتمام كبير من المثقفين المصريين والعرب كنموذج لثقافة مضادة للانغلاق والتحجر الأيديولوجى أو التشنج العقائدى.
 
فزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى لفيتنام هى أول زيارة يقوم بها رئيس مصرى لهذه الدولة الصديقة فيما تتضمن سلسلة اللقاءات والمباحثات بين الرئيس وكبار القادة والمسؤولين الفيتناميين سبل تطوير العلاقات الثنائية وتعظيم الاستفادة من الإمكانات والقدرات المتاحة لدى البلدين بما يسهم فى فتح آفاق أرحب لتعزيز التعاون المشترك فى مختلف المجالات ويتناسب مع العلاقات التاريخية التى تجمع بين مصر وفيتنام اللتين ترتبطان أيضا بعلاقات وثيقة مع الصين ودول مجموعة (بريكس) على وجه العموم. 
 
وتتضمن محاور قمة بريكس التى يشارك فيها الرئيس عبد الفتاح السيسى وتستضيفها مدينة "شيامن" الصينية لتستمر ثلاثة أيام، تنشيط حركة التبادل الثقافى بين الشعوب..فيما اتفق المعلقون على أن مشاركة مصر فى هذه القمة يعبر عن الأهمية المتزايدة لحضورها العالمى ووزنها الدولى.
ويتفق العديد من المحللين والمعلقين على أن مصر مؤهلة للانضمام لتجمع (بريكس) الذى يضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ويتجاوز عدد سكانه بلدانه نسبة 40 فى المائة من مجموع سكان العالم، ويعد من أهم التكتلات الاقتصادية الدولية فيما تسهم دوله مجتمعة بنسبة تقدر بنحو 50 فى المائة من إجمالى النمو العالمى خلال العقد الأخير.
 
وإذا كانت مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى قمة (بريكس) التى تعد أهم تجمع للاقتصادات الناشئة عالميا تؤكد قوة ومكانة الاقتصاد المصرى على الصعيدين الإقليمى والدولى كما أوضح المهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة الذى صرح بأن إجمالى تجارة مصر مع دول البريكس وصل إلى 20 مليار دولار فى العام 2016 فيما ارتفع حجم التجارة بين مصر والصين إلى 11,3 مليار دولار.
 
ولئن أفادت التقديرات المعلنة على صعيد العلاقات المصرية - الصينية بقوة الروابط المتنامية بين الدولتين سواء فيما يتعلق بعدد الشركات الصينية العاملة فى مصر أو الاستثمارات الصينية فى أرض الكنانة فضلا عن عدد السائحين الصينيين فإن للعلاقات المصرية - الفيتنامية أن تشهد فى ضوء زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى المزيد من النمو والتطورات الإيجابية فى مجالات متعددة.
 
وواقع الحال أن مصر وفيتنام معا تنطلقان بقوة فى طريق النمو والصعود الاقتصادى فيما كانت دراسة مستفيضة صدرت بالإنجليزية لمؤسسة (برايس ووتر هاوس كوبرز) بعنوان " العالم فى عام 2050: هل سيستمر التحول فى القوى الاقتصادية العالمية" قد أكدت هذه الحقيقة.
 
فقد أكد الباحثان جون هوكسورث ودانى شان فى هذه الدراسة أن مصر صاعدة لتكون قوة من القوى الاقتصادية الكبرى فى العالم، وأوضحا أن مصر التى كانت تحتل فى عام 2014 المركز الثانى والعشرين عالميا فى إجمالى الناتج المحلى حسب تصنيفات هذه الدراسة وبياناتها ستتقدم صاعدة للمركز السادس عشر بين أكبر القوى الاقتصادية فى العالم عام 2050. .أما فيتنام ومعها نيجيريا فستكونان الدولتان الأسرع نموا خلال هذه الفترة.
 
وستكون الصين حسب هذه الدراسة القوة الاقتصادية الأولى فى العالم لتتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية التى قد تنافسها الهند أيضا لتزيحها عن المركز الثانى وهما قوتان فى مجموعة "بريكس" ولهما علاقات وثيقة مع مصر وفيتنام اللتين تتشابهان فى عدد السكان حيث يقدر عدد سكان فيتنام بنحو 90 مليون نسمة من بينهم نسبة كبيرة من الشباب كما هو الحال فى مصر.
 
ومنذ بداية الشطر الثانى لثمانينيات القرن العشرين قررت فيتنام التحول من الاقتصاد القائم على المركزية والتدخل الشامل للدولة إلى اقتصاد يقوم إلى حد كبير على آليات السوق وخلق بيئة اقتصادية جاذبة للاستثمارات الخاصة والأجنبية بما فى ذلك الاستثمارات الأمريكية على الرغم من موروث الذكريات المريرة "للحرب الأمريكية فى فيتنام". 
 
وفيما يلاحظ معلقون وكتاب عن حق أن "فيتنام" لها مكانة خاصة فى قلوب وعقول أجيال من المصريين كرمز للمقاومة إبان ماعرف بالحرب الفيتنامية فى ستينيات القرن العشرين فإن هذه الحرب التى كانت القوات الأمريكية طرفا رئيسا فيها مازالت حاضرة بقوة فى الأدب الأمريكى والغربى عموما كحدث كبير ترك تداعيات متعددة فى أوجه الحياة الأمريكية بعد أن تكبد الأمريكيون نحو 50 ألف قتيل فى هذه الحرب.
 
وفى العام الماضى كانت الرواية التى فازت بجائزة بوليتزر الأمريكية الشهيرة فى فئة الأدب تدور حول "الحرب الفيتنامية" وهى "رواية المتعاطف" وكان صاحبها يوصف "ككاتب مغمور" قبيل الإعلان عن فوز روايته بهذه الجائزة.
 
فلجنة التحكيم فى جوائز بوليتزر عمدت عامئذ لأسلوب المفاجأة السارة عندما اختارت رواية لمؤلف لم يسمع عنه أحد من قبل لكن الرواية جيدة للغاية والأهم أنها العمل الأول لفيت ثانه نجوين الذى يؤكد اسمه من أول وهلة أنه فيتنامى الأصل والأكثر أهمية فى هذا السياق أن الرواية تتناول الحرب الفيتنامية والفترة التالية لنهايتها فى منتصف سبعينيات القرن العشرين.
 
ورواية "المتعاطف" لفيت ثانه نجوين نالت استحسان الكثير من القراء والنقاد وبالطبع بعد فوزها بجائزة بوليتزر قفزت مبيعاتها مرات ومرات، وتلك هى القيمة الحقيقية لهذه الجائزة التى تعد أهم الجوائز الثقافية فى الولايات المتحدة.. فالرواية الفائزة بجائزة بوليتزر تقفز بسرعة لصدارة قوائم المبيعات.
 
وبطل رواية "المتعاطف" هو "جاسوس شيوعى نصف فيتنامى ونصف فرنسى" ويعيش حياة مزدوجة فى لوس أنجلوس أما مؤلف الرواية ذاته فهو ينتمى لعائلة من اللاجئين الفيتناميين فى الولايات المتحدة وشب عن الطوق فى ولاية كاليفورنيا وكان معجبا دوما بروايات وقصص الجاسوسية .
 
وإذا كانت رواية "المتعاطف" تتناول الحرب الفيتنامية كما تستعرض وقائع ما بعد انتهاء هذه الحرب التى تورطت فيها الولايات المتحدة فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى فإن الحرب الفيتنامية تركت آثارا فى الثقافة المصرية باعتبار أن هذه الحرب كانت تعبر فى أحد أبعادها عن ثقافة المقاومة لدى الشعب الفيتنامى الذى تفيد تقديرات بأنه فقد نحو مليونى شخص من أبنائه فى هذه الحرب التى كانت الترسانة الحربية الأمريكية تلقى فيها بأحدث أسلحتها وأكثرها فتكا فيما تعرضت العاصمة الفيتنامية الشمالية حينئذ "هانوى" لغارات مدمرة.
 
وكانت مصر قد بادرت بفتح سفارة فى هانوى العام 1963 وفى ذروة ماعرف بالحرب الفيتنامية وسط تعاطف كبير على كل المستويات بما فى ذلك الجماعة الثقافية المصرية مع كفاح الشعب الفيتنامى من أجل الحرية.
 
وهكذا احتفل مثقفون مصريون بانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام فى منتصف سبعينيات القرن الماضى وتوحيد شطرى فيتنام الشمالية والجنوبية وكتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة تغنى بها الشيخ إمام عيسى وتقول كلماتها :" سايجون عادت للثوار فوق الدم وتحت النار".
 
وقبل ذلك نعى هذا الثنائى الفنى المصرى الراحل "نجم - إمام" قائد الثورة الفيتنامية هوشى منه الذى قضى فى الثانى من سبتمبر عام 1969 وكان الفيتناميون يلقبونه "بالعم هو اللطيف" وهو الذى قاد أيضا المقاومة ضد الاحتلال الفرنسى لفيتنام فى خمسينيات القرن الماضى فيما أنزل الجنرال الفيتنامى المقاوم جياب هزيمة ساحقة بالقوات الفرنسية فى معركة دارت رحاها عام 1954 وذاع صيتها باسم معركة "ديان بيان فو".
 
ومازالت الذاكرة الثقافية المصرية والعربية تحتفظ بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم فى قصيدته التى نعى فيها الثائر الفيتنامى الأسطورى هوشى منه الذى أطلق اسمه على العاصمة الفيتنامية القديمة سايجون وجاء فيها "مات الصديق الوفى للخضرة والغابات.. بس فات الأمل فوق الطريق علامات.. لو سار عليها العمل طول الطريق بثبات تهدى الغريب سكته وتقرب المسافات".
 
ولن تنسى الذاكرة الثقافية الغربية تلك المحاكمة الثقافية أو محكمة الضمير الثقافى الغربى للحرب الأمريكية فى فيتنام، والتى أقيمت إبان احتدام هذه الحرب تحت اسم "محكمة جرائم الحرب" بعد أن شكلها المفكر البريطانى الشهير برتراند راسل فى سياق مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام.
 
كما أن العديد من المعجبين بأسطورة الملاكمة الراحل محمد على كلاى لن ينسوا أنه رفض المشاركة فى الحرب الأمريكية بفيتنام فيما وضعه الكاتب ديفيد رينميك فى مجلة النيويوركر جنبا إلى جنب مع أعظم عظماء أمريكا مثل الشاعر والت ويتمان، والبطل الشعبى ديفى كروكيت، والفنان الموسيقى دوك الينجتون.
 
فاسم "فيتنام" حاضر بالفعل بقوة فى الثقافة العالمية والغربية بعد أن أفضت الحرب الفيتنامية لتداعيات عميقة فى الحياة الأمريكية واقترنت بظواهر اجتماعية مثل "الهيبيز" كظاهرة اقترنت بحراك اجتماعى وسياسى فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى و"سنوات الحرب الأمريكية فى فيتنام.
 
وإذا كان الفنان الأمريكى بوب ديلان الذى فاز بجائزة فى الأداب فى العام الماضى قد توهج إبداعه فى الشعر والغناء والتلحين فى هذا المناخ الثقافى الأمريكى المعادى للتدخل العسكرى فى فيتنام فللكاتب الأمريكى الراحل ويليام وارتون الذى قضى العام 2008 قصة عنوانها "هاجس الطيور" التى كانت قصته الأولى وتحولت إلى فيلم سينمائى بعنوان "بيردى" عن صديقين يعودان للوطن الأمريكى من حرب فيتنام فيما يعانى أحدهما من اضطرابات نفسية بعد أن تسلط عليه هاجس التحول إلى طائر.
 
وفى كتابه "الأبواب" يتحدث المؤلف جريل ماركيوز عن فريق الأبواب "ذى دورز" الموسيقى-الغنائى الذى بلغ ذروة شهرته فى أمريكا والغرب خلال النصف الثانى من ستينيات القرن العشرين كصيحة احتجاج فى عالم الموسيقى أثناء الفترة التى يصفها "بالأيام الرديئة حيث الحرب المسعورة التى كانت تشنها أمريكا فى فيتنام".
واللافت أن هناك رسائل أو أطروحات دكتوراة فى جامعات مدنية غربية عن قضايا عسكرية أو استراتيجية متصلة بقضايا الحرب تشكل فيها الحرب الفيتنامية المحور الأساس مثل أطروحة الدكتوراة التى تقدم بها دافيد بتريوس المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية العام 1987 لجامعة برنستون فى الولايات المتحدة وكانت بعنوان:" المؤسسة العسكرية الأمريكية ودروس فيتنام..دراسة عن الفعالية العسكرية واستخدام القوة فى مرحلة ما بعد فيتنام".
 
ورغم كل المرارات التى خلفتها هذه الحرب فإن فيتنام والولايات المتحدة دخلتا فى "علاقة شراكة شاملة" العام 2013 وكانتا قد أقامتا علاقات دبلوماسية كاملة منذ عام 1995 فيما تفيد تقديرات وإحصاءات معلنة أن الولايات المتحدة باتت ثانى أهم الشركاء التجاريين لفيتنام ولا يسبقها سوى الصين.
 
وكما لاحظ معلقون بحق فإن "العالم يتغير ولا أحد يمكنه أن يعيش للأبد فى ذكريات الماضى غافلا عن متغيرات الحاضر"، ومن هنا مثلا فإن فيتنام هى المورد الثالث عشر للولايات المتحدة حاليا كما تفيد إحصاءات معلنة بأنها ثانى أكبر مصدر للملابس للسوق الأمريكية بينما استقبلت"جمهورية فيتنام الاشتراكية" ثلاثة رؤساء أمريكيين هم: بيل كلينتون فى عام 2000 وجورج بوش عام 2006 وباراك أوباما عام 2016.
 
وهكذا أيضا لم تغلق" فيتنام الاشتراكية" الأبواب أمام الاستثمارات الأمريكية والأجنبية عموما ما دامت ستفيد الشعب الفيتنامى الذى قاتل ببسالة فى الماضى ضد القوات الأمريكية لكنه يمكنه أن يستفيد الآن من استثمارات أمريكية فى مجالات متعددة وخاصة تكنولوجيا المعلومات. 
 
ولعل بعض المعلقين والمثقفين المصريين والعرب الذين طالبوا بدراسة التجربة الفيتنامية لم يجانبوا الصواب غير أن أهم ما فى هذه التجربة يتمثل فى "المرونة الفائقة فى التعامل مع متغيرات العصر ومخاصمة التحجر الأيديولوجى أو التشنج العقائدى الذى يفضى للموات ويلحق أضرارا جسيمة بجماهير الشعب" وهى مسألة قد تتجاوز فى أهميتها مظاهر استرعت اهتمام هؤلاء المعلقون مثل التفوق فى صناعة المنسوجات وجذب الاستثمارات الأجنبية والإدارة الناجحة للمنشآت الاقتصادية التابعة للدولة فكلها مظاهر لجوهر يتمثل "فى المرونة الفائقة ومخاصمة التحجر الأيديولوجي".
 
وهاهى مصر تمضى مع فيتنام على الطريق نحو المستقبل الأفضل بعيدا عن الجمود أو التحجر وبنظرة حريصة على مصالح الجماهير فيما تتشابه ملامح التجربتين التنمويتين فى البلدين حاليا فى ذلك الاهتمام الكبير بتوسيع قاعدة النمو الاقتصادى ومنح مزايا للشباب وصغار المنتجين مع تنويع الصادرات والأسواق.
 
وإلى جانب العلاقات الاقتصادية والتبادلات التجارية الآخذة فى التصاعد بين مصر وفيتنام فإن البعد الثقافى لا يغيب عن التعاون بين الدولتين الصديقتين فيما تقدم مصر حسب بيانات منشورة عددا من المنح الدراسية لطلاب وباحثين فيتناميين من بينها 12 منحة لدراسة اللغة العربية بجامعة القاهرة فضلا عن ثلاث منح بجامعة الأزهر الشريف..معا نعود لجذور مضيئة فى التاريخ ومعا ننطلق نحو المستقبل والفجر البهى. 
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة