أكرم القصاص - علا الشافعي

عباس شومان

تجديد أم تبديد ؟!

الخميس، 28 سبتمبر 2017 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يطرب بعض الناس بوصفه بالمجدد من قبل أبواق تسلك مسالك الشذوذ الفكرى، وتنطلق من هوى النفس دون التقيد بضوابط الشرع التى عفا عليها الدهر فى زعمهم، فنرى هؤلاء ينطلقون انطلاقة الخيل الجامح باحثين عن فرقعة جديدة، تجعل هذه الأبواق تسبح بحمدهم وتمجدهم عبر برامج «التوك شو» وصفحات التواصل الاجتماعى، وينقسم المجتمع تبعًا لذلك إلى قسمين أحدهما ينتمى إليه المنفلتون المتبعون للشهوات الباحثون عن التخلص من القيود الشرعية فى زعمهم، والثانى يضم الغاضبين على انتهاك الحرمات والمتأسفين على ما وصل إليه حال بعض المحسوبين على العلماء، بينما تنفخ الأبواق لإذكاء هذا الصراع الذى يكفيهم مئونة التطرق إلى موضوعات وقضايا ضرورية تهم المواطن وتشغل باله، وهى التى تتعلق بالقضاء على الفقر والبطالة، ومحاربة الجهل والمرض، ومكافحة الفساد، وتوفير المأكل والمسكن المناسب ليحيا الإنسان حياة آدمية كريمة، ولا أحسب أن عصرًا من العصور وصل إلى هذا التدنى والجرأة على شرع الله وإلهاء الناس بما هو غث لا يسمن ولا يغنى من جوع كهذا العصر الذى ابتلينا بالعيش فيه!
 
إن الخلاف بين فقهاء المسلمين مع كثرته، انحصر فى الفروع ولم يقع فى مسألة من مسائل الأصول، حيث إن مسائل الأصول حُسمت بالنصوص القطعية التى لا تقبل أكثر من حكم، بينما جُعلت الفروع فى دائرة الظن من النصوص تيسيرًا على المكلفين، ولتكون مراعية لأحوال الناس فى العصور المختلفة، وهو ما يجعل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، حيث يتوصل الفقهاء من خلال اجتهادهم إلى استنباط أكثر من حكم فى الفرع الواحد، ولا حرج على المكلف بالأخذ بأى من هذه الأحكام، وقد تجد بعض الفروع لم تتعرض لها النصوص أصلا، فعندئذ يجتهد المجتهدون فى إلحاقها بحكم مسألة تشاركها فى علتها، مع ما فى ذلك من تفصيل ليس محله هذا المقام.
 
أما فى زماننا، فلم يقف الأمر عند هذا الحد المحمود من الخلاف الميسر على المكلفين والمنطلق من قواعد مستقرة للاجتهاد اتفق الفقهاء والأصوليون عليها إجمالًا، فتجد بعض المعاصرين يتجرأون على تناول مسائل الأصول المتفق على أحكامها المستنبطة من نصوص قطعية، كإباحة بعض المسكرات بدعوى إباحة الحنفية للقدر غير المسكر منها، أو أنها مركبات كيميائية وليست الخمر التى حُرمت فى كتاب الله، والتى تنتج من التمر أو العنب، بل وصل الحد ببعض السفهاء الجهلاء ممن لا تعرف لهم أثر من علم إلى القول بإباحة الخمر جملة وتفصيلا، وأنه لا يوجد دليل على تحريمها لا فى الكتاب ولا فى السنة، وفوق هذا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشربها! ولست أدرى هل لهؤلاء عقول كبقية البشر أو لا؟! وهل يفهمون لغة العرب ودلالة ألفاظها ويحسنون قراءة الآيات التى يستشهدون بها أو أنهم يحاولون التخلص من صعوبتها على قدراتهم بتجاوزها وتنحيتها جانبا؟! ولعل هذا الأخير هو الأقرب للحقيقة، وإلا فكيف رأى هؤلاء الجهلاء الأدعياء قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» غير دال على تحريم الخمر، مع أن أصغر طالب علم يعلم أن «اجتنبوه» فعل أمر يدل على تحريم الخمر ووجوب تركه؟!
 
ومثل هذا يقال فى الذين ينكرون فريضة الحجاب مع حصول إجماع فقهاء المذاهب على فرضيته، وحصول الإجماع بين من يختلفون كثيرًا على دليلٌ بيِّن على عدم قابلية حكم المسألة للخلاف، وما ذاك إلا لتضافر النصوص على إثبات فرضية الحجاب، ولست أدرى كيف ساغ لهؤلاء الذين يكفيهم شرفًا الالتحاق بذيل مراتب الفقهاء إن هم أدركوها أصلًا أن ينصبوا أنفسهم مجتهدين مجددين يتقدمون على من خلا الزمان عن وجود من يساويهم رتبة بعد ابن جرير الطبرى؟! وكيف فهم هؤلاء الأدلة التى أجمع من يعرفون الاجتهاد وأدلته على إثباتها فرضية الحجاب أنها لا تدل عليه ولم تحسم حكمه؟! وأعجب ما قيل أن قول الله تعالى: «وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا...» لا يحسم فرضية الحجاب بدعوى أن ما ظهر من الزينة غير محدد، فى إشارة إلى احتمال دخول الرأس فيما يعفى عن انكشافه، لأنه من ظاهر الزينة، وقد غفل من قال بهذا عن أمرين: أحدهما أن العفو عن الزينة الظاهرة تقدم على الأمر بالخمار مما ينفى كون الرأس من المعفو عنه، إذ لو كان الأمر كذلك لأورد تناقضًا حاشا لكتاب الله أن يقع فيه، فكيف يعفو عن الرأس ثم يأمر بتغطيته؟! ولو كان المعفو عنه متأخرًا عن الأمر بضرب الخمار لأمكن هذا الاحتمال، وأرى أنه ربما يكون المقصود: ما ظهر منها من غير قصد إظهاره، لما هو معلوم من أن تزين النساء ممنوع خارج بيوتهن، ولذا قال العلماء: إن المقصود مواضع الزينة وليس الزينة ذاتها، الأمر الثانى أن ضرب الخمار طُلب على سبيل الحسم والوجوب بقوله: «وليضربن»، ولا قرينة تصرف عن هذا الوجوب، فكيف يقال إذن إن الآية لم تحسمه؟!
 
وهناك آيات كثيرة تعضد آية الحجاب هذه وتثبت فرضيته، منها قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ»، حيث يعنى «الجلباب» الثوب الذى يغطى سائر البدن إلا ما جرى العرف بكشفه وهو الوجه واليدان بالنسبة للمرأة، فضلًا عن سنن قولية وفعلية وتقريرية يضيق المقام عن ذكرها، وليس أدل على بطلان زعم عدم فرضية الحجاب من الأثر المترتب على ذلك، إذ لا يشكك عاقل فى أفضلية ستر المرأة نفسها بالحجاب صيانةً لها ووقايةً من نفوس مريضة ابتُلى بها المجتمع، وشاع ما يرتكبونه بحق النساء فى الشوارع والميادين، ومعلوم أن شريعة الإسلام تحرم الضار وتحل النافع، ولا نفع يرجى من إنكار فرضية الحجاب، بل الضرر واقع ومتحقق.
 
وعليه، فإن ما ينتهجه بعض دعاة التجديد اليوم هو تبديد وليس من التجديد فى شىء، وحتى لا يُتخذ التجديد- الذى هو ضرورة لمواكبة مستجدات العصور وتلبية احتياجات الناس- مطية لتبديد أحكام شريعة الإسلام وإفراغها من محتواها، فإنه يلزم أن ينطلق السائرون فى هذا الدرب من قواعد ومعايير علمية مستقرة بين العلماء، ولا يطلق هؤلاء العنان لعقولهم لتسرح وتمرح فى الشريعة وأحكامها دون ضابط ولا رابط، لأنهم لو فعلوا لسوغت لهم عقولهم الفواحش والمنكرات، ولن يجدوا حرجًا فى استحلال الزنا مثلًا بدعوى اللذة وسعادة الطرفين، خاصة مع التراضى، واستحلال الربا بحجة فك كرب المقترض، وتمكينه من قضاء حاجته التى اقترض من أجلها، واستحلال الشذوذ والمثلية بزعم الحرية، وغير ذلك من الآفات والموبقات الأخلاقية الشنيعة التى تجر المجتمع إليها عقول جامحة تحل الحرام وتسوغ المنكر، بل وتعمل جاهدة على تعميمه وانتشاره والمجاهرة به، وترمى من يتصدى له بالجمود والتخلف والرجعية، وهذا لعَمرى شر خطير ومفسدة عظيمة ينبغى الوقوف لها بالمرصاد شأنها شأن التطرف والغلو فى الدين سواءً بسواء.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

الشعب الاصيل

الأصول والفروع

عندك كل الحق فيما تقول ولكن للأسف الفتاوي التي نسمعها تسيء إساءة بالغه للأصول والفروع معا..لابد علي الأزهر قطع دابر هذه الفتاوي في مهدها وعدم تركها لتضليل الناس وبث الشكوك والحيره ...

عدد الردود 0

بواسطة:

نشات رشدي منصور / استراليا

الي. ابن بلدي فضيلة الشيخ. عباس شومان .. كلامك يوزن بالذهب وأضيف.

واللي. ما عندوش. اصل. يبقي. ليس. له. حاضر. .. ولكن. ماهي. مصداقية. الاصل. ؟ هذا. هو السؤال المهم. والاهم. وأشكرك. ياعمنا الشيخ. .

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة