امتلأت سجون القاهرة والإسكندرية ومراكز الأقاليم بالثوريين ممن شاركوا فى الثورة العرابية، بعد هزيمة جيش عرابى فى التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882، وذلك بعد أن صدر الأمر إلى المديرين والمحافظين والحاكم بالقبض على كل من له يد فى الثورة، وحسبما تذكر الدكتور لطيفة سالم فى تعليقها على كتاب «الثورة العرابية بعد خمسين عاما- رؤية صحيفة الأهرام»، بقلم داود بركات، فإن المسجونين كانوا ضباطًا وأعيانًا وعلماء وقضاة وعمدًا ومشايخ وصحفيين ومديرين وتجارًا، وتؤكد: ضاقت بهم السجون، وبلغ عدد المقبوض عليهم نيفا و29 ألف نفس، واتسعت دائرة الانتقام، واستخدمت جميع وسائل التعذيب مع المسجونين، وكان لرياض باشا اليد الطولى فى ذلك، إذ قال: «إن المصريين تعابين، والطريقة الوحيدة لمنع تفشيها هى سحقها بالأقدام، وسأسحق أنا المصريين».
ويذكر الدكتور عبدالمنعم الجميعى فى تقديمه وتعليقه على مذكرات عرابى، الصادرة عن «دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة»: «امتلأت السجون بمن ناصر الثورة العرابية من العلماء والمديرين وعمد البلاد والتجار وغيرهم، لدرجة أن وزارة الداخلية أرسلت تشكو إلى مجلس النظار من هذا الازدحام، وتحذر من المساوئ التى يمكن أن تترتب عليه»، أما عرابى نفسه فيذكر: «صار سجن جميع الذين بالمديريات والمحافظات من المستخدمين والموظفين والعمد والأعيان والقضاة والمفتين وغيرهم من عامة الناس حتى غضت السجون بما يربو على ثلاثين ألفًا من المصريين»، ويقول «بركات»: «لما صدر الأمر إلى المديرين والمحافظين والحكام بالقبض على كل من له يد فى الثورة، أفحش هؤلاء بسوء المعاملة، وبالغوا بالإيذاء لاسيما فى الشرقية والمنيا، وكثر أصحاب الوشايات والخيانة، فاكتفوا بعد ذلك بإصدار الأمر بحل الجيش، وكان هذا الجيش قد انحل من تلقاء نفسه».
جاء قرار «توفيق» بحل الجيش المصرى يوم 19 سبتمبر من عام 1882، ويذكر عرابى فى مذكراته: «صدر أمر الخديو بإلغاء الجيش المصرى وصرف العساكر إلى بلادهم، ومحاكمة الضباط وكبار قادة الجيش المدافع عن البلاد بصفته أنهم عصاة»، أما الهدف من هذا القرار فيحدده «الجميعى» فى: «القضاء على العسكرية المصرية، وتشكيل جيش جديد تحت الإشراف الإنجليزى، وإلغاء الرتب العسكرية المعطاة فى مدة الثورة العرابية»، وتقول لطيفة سالم: «أصدر الخديو أمره بحل الجيش على أساس أنه أيد الثوريين، وبالطبع جاء ذلك وفقًا لإرادة المحتل».
كانت مصر تنتقل من حال إلى حال، ولم يكن قرار حل الجيش الشاهد الوحيد على تصفية كل ما هو له علاقة بالثورة العرابية، ففى يوم 19 سبتمبر وطبقًا للجزء السادس من كتاب «مصر للمصريين» لسليم خليل النقاش عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة»، فإنه صدرت أوامر خديوية بعد سقوط التل الكبير بتعيين حكام للمديريات من أهل النزاهة والإخلاص «يقصد الذين لم يكونوا فى صف الثورة»، فعين إبراهيم أدهم باشا مديرًا للغربية، ومحمد شاكر باشا للدقهلية، وأحمد فريد باشا للشرقية، وإبراهيم بك توفيق للبحيرة، وحسن فهمى بك للمنوفية، وإلياس بك لبنى سويف، ومراد باشا رفعت للفيوم، وخليل بك عفت للمنيا، وحسن بك رفعت لقنا، وعثمان باشا صدقى لإسنا، وعين عثمان باشا غالب مأمورًا لضبطية مصر، وأحمد باشا رأفت محافظًا للإسكندرية، وإسماعيل زهدى باشا محافظًا لدمياط، وحسين بك البغدادى محافظًا لرشيد.
فى اليوم نفسه أيضًا «19 سبتمبر» أصدر الخديو أوامره بتأليف مجلسين للتحقيق فى الجرائم، أحدهما بطنطا، والآخر بالإسكندرية، ويذكر النقاش أن الهدف كان التحقيق فى مواد السرقة والقتل والهتك والنهب والحريق التى وقعت فى الإسكندرية يوم 11 يونيو سنة 1882، وفى الأيام التالية ليوم 11 يوليو حتى 16 من الشهر ذاته، وأمر الخديو أن تكون وظيفة هذه اللجنة مقصورة على تحرير تقرير عن كل قضية يجرى تحقيقها، وأن تقيم الدعوى على كل شخص تظهر جنايته لديها، وأن تقرير الدعوى والمستندات المشفوع بها تقدم بعد ذلك لمجلس المخصوص، ولهذه اللجنة أن تطلب ضبط أى شخص بمقتضى طلب يقدم منها إلى محافظ الإسكندرية الذى يجب عليه تنفيذ هذا الطلب، ويجوز للقنصليات أن ترسل للمندوبين من طرفها إذا شاءت ليحضروا جلسات اللجنة، ومع عدم جواز اشتراك هؤلاء المندوبين فى المداولة يكون لهم الحق بأن يظهروا ما يتلا حظ لهم إلى اللجنة بواسطة الرئيس، وألا يجوز لهم الاشتراك فى المذكرات والمداولات.