أكرم القصاص - علا الشافعي

سهيلة فوزى

الساحر .. عبد الحكيم قاسم (2)

الجمعة، 04 أغسطس 2017 05:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قررت جدتى يوما فى إحدى زياراتها القليلة لنا فى القاهرة التمرد على رحلتها المكوكية التى اعتادت عليها كلما وطأت قدميها أرض المحروسة ، والتى تتمثل فى زيارة سيدات آل البيت بدءا بعائشة وسكينة ورقية وصولا لمقام السيدة زينب - رضى الله عنهن - كانت تكتفى رحمها الله بهن فى يوم ، ثم تشد الرحال لزيارة سيدنا الحسين فى اليوم التالى.
 
 فى تلك السنة أعلنت التمرد. لم تتبع خطتها المعهودة. قررت السفر لزيارة السيد البدوى، كانت زيارته تلك تعنى لى الكثير فكانت أول مرة فى حياتى أسافر فى إتجاه الشمال فقد اعتدت دوما السفر جنوبا حتى فى حر أغسطس.
 
رأيت فى طنطا محبة الزوار للسيد البدوى ، وتعلقهم الشديد به واعتقادهم فى كراماته وارتباطهم به، تلك المحبة التى رصدها عبد الحكيم قاسم فى روايته أيام الإنسان السبعة التى صور فيها "قاسم" ببراعة ولع البسطاء بالسيد البدوى ومظاهر التدين فى الريف، فقدم لى تفسيرا لما رأيته منذ سنوات فى ساحة مسجد السيد البدوى.
 
رسم عبد الحكيم قاسم فى أيام الإنسان السبعة صورة بانورامية للقرية، وأهلها من خلال نسيج متناسق بديع من شخصيات متعددة الطبائع ، مختلفو الميول يجمعهم فقط ولعهم بالسيد البدوى . صاغ "قاسم" العلاقة بينهم بإنسانية شديدة، ترتفع عن أوجه الخلاف وتدعو إلى استيعاب الجميع مهما كانت الفروق أو الخلافات تحت راية محبة آل البيت وأولياء الله الصالحين .
يسرد عبد الحكيم قاسم قصة قريته البندرة من خلال شخصية الراوى "عبد العزيز" الذى طالما تخفى ورائه فى كثير من أعماله ليحكى من خلاله فيضا من سيرته الذاتية وحياته.
وتعتبر رواية أيام الإنسان السبعة الجزء الأول من محاولة "قاسم" تحليل الجانب الدينى فى حياة أبناء الريف، ثم تلتها روايته القصيرة "المهدى" حيث اهتم قاسم فى الراويتين بتتبع الجانب الدينى فى الريف وتطور مظاهره. 
جسد الأب الشخصية المحورية فى الرواية كأغلب البيوت المصرية، تدور فى فلكه كل الشخصيات. يقود أبناء قريته إلى مولد السيد البدوى بلغة تميز بها عبد الحكيم قاسم، صنعت نثرا أقرب إلى الشعر فى عذوبة مفرداته وإيجازه، عبر شبكة من العلاقات الإنسانية
 غزلها "قاسم" بعذوبته المعتادة، علاقات تحكمها الرحمة، وتقبل الاختلاف طالما اجتمعوا على حب آل البيت وأولياء الله الصالحين، فعندما أبدى خليل اعتراضه للحاج كريم على وجود العايق بينهم رغم أنه لص دجاج قائلا :
على : ياعم الحاج. العايق كل عيشته حرام.
الحاج كريم : بيعوص إيده جاز وينور لنا لمبة فى فرحنا وميتمنا.
على : عيشته حرام.
الحاج كريم: ربنا سايعه فى ملكه.. وفى طريقه.. مقدرش أطرده .
 
يتقبل الحاج كريم وجود لص بين أصدقائه، لأنه تعلق بآل البيت وحلقات الذكر حتى وإن لم تنهه عن أفعاله، أملا أن يهتدى يوما. 
 
رسم "قاسم" صورة متكاملة لاستعدادات أهل القرية للسفر إلى مدينة طنطا احتفالا بمولد السيد البدوى وسعادة الجميع برحلتهم السنوية، طقوس الخبيز للمولد، ودار الخدمة فى طنطا، وأمسيات الذكر وقراءاته المتوهجة بدلائل الخيرات وبردة البوصيرى، مراحل أبدع قاسم فى تصويرها، ولم يغفل قاسم إبراز خبرة المرأة الريفية فى تسيير أمور المعاش فى البيت من خلال شخصية الأم التى جاءت موازية لتأثير الأب الحاج كريم، ولكن داخل نطاق البيت.
 
رغم احتفاء أهل القرية بمولد السيد البدوى ومحاولة عبد العزيز -الراوى- مجاراتهم إلا إنه أعلن فى النهاية رفضه لتلك المراسم وهذا النمط من التدين بل إنه رأها دربا من دروب الشرك بالله فصاح فى أبيه: أمم من غير عقل.. من غير تفكير. أمم بتدوس زى البهايم.. مش عارفين رايحين فين .. مش عارفين جايين منين بتعملوا أيه.. رايحين فين يا عُباد الأصنام. 
 
الحاج كريم: ناسك أهلك بهايم يا عبد العزيز خلق الله اللى جاية من آخر الدنيا فرحانة خطوتهم ينهز لها العرش يا جاهل.
 
 جسد عبد العزيز بثورته تلك اعتراضا على نمط من التدين فى الريف، هو ذاته الرفض الذى سيظهره أيضا عبد العزيز لنمط التدين على طريقة الإخوان فى "المهدى" رواية عبد الحكيم قاسم الثانية التى بدأها قاسم بإهداء إلى أبنائه يوحى بقلقه مما توشك مصر على السقوط فيه أواخر السبعينيات.  
  
ابنتى إيزيس.. ابنى أمير.. أرجو أن تعيشا مصرا أحسن من تلك التى عاشها أبوكما.. وأن تذكرانى
بتلك الكلمات بدأ عبد الحكيم قاسم روايته القصيرة المهدى فى سبتمبر 1977 التى جاءت مختلفة تماما عن روايته الأولى أيام الإنسان السبعة، فاتسمت لغة "المهدى" بالبساطة والوضوح. انشغل فيها أكثر بالقضية التى تطرحها الرواية على حساب الجمال الأدبى أو الإبهار اللغوى بالوصف والمفردات وقدرته على التصوير كرواية أيام الإنسان السبعة.
 
"المهدى" هى نبوءة قاسم عن جماعة الإخوان المسلمين  التى تحققت بعد سنوات طويلة توغلت خلالها تيارات الإسلام السياسى بمنهجهم الفكرى وطموحاتهم السياسية تحت ستار دينى داخل المجتمع.
 
ورغم احتلاف أسلوب الكتابة بين أيام الإنسان السبعة والمهدى إلا أن قاسم جعل من المهدى استكمالا لأيام الإنسان السبعة. يتابع خلالها رصده لتطور المزاج الدينى فى الريف المصرى، فجعل عبد العزيز راوى الأحداث فى أيام الإنسان السبعة هو نفسه الرواى فى المهدى، ونسج رابطا عائليا بينه وبين أحد أهالى قرية محلة الجياد التى تدور فيها أحداث المهدى كقرية مجاورة لقرية البندرة مسقط رأس عبد العزيز ومسرح الأحداث فى "أيام الإنسان السبعة".
 
تدور "المهدى" حول عوض الله صانع الشماسى المسيحى الذى يرحل عن داره بعد تعثره فى دفع الإيجار، وبينما تطلب زوجته التوجه إلى كفر مسيحى يستظلون فيه بأهل من نفس ملتهم ويبحثون عن رزق لطفليهما، وصلت الرحلة بهم إلى محلة الجياد وسرعان ما التقطهم على أفندى من الطريق وضايفهم فى منزله. وأخبر طلعت أمين جماعة الإخوان المسلمين فى القرية بمشكلة عوض الله. 
 
بعدها يبرز "قاسم" منهج الجماعة فى الحشد حتى على نطاق المستويات الدنيا من التنظيم فالأحداث هنا داخل قرية صغيرة إلا أن سياسة التنظيم فى الحشد واحدة وبنفس المنهج.
 
 فيأتى على لسان طلعت المشرقى شرح لتحركات الجماعة للتعامل مع المشكلة قائلا : الجماعة فى القرية قمنا بحركة شاملة تهدف إلى حض الناس على إصلاح شماسيهم عند الرجل - يقصد عوض الله - أو شراء شماسى جديدة منه وتولينا تحديد الأسعار. بدت تحركاتهم فى البداية كمساعدة للرجل وأسرته ولكنها ما تحولت إلى إجبار للرجل على الدخول فى الإسلام ، ومع ازدياد نفوذ الجماعة أمام تراخى الدولة الممثلة فى عمدة القرية ، الذى عبر عن رفضه الشخصى لما يحدث : الناس لا تطيق المخالفة. ولو كان واحدا فى أربعين ألف .. هذا رهيب.
 
قدم "قاسم" من خلال الرواية اختصارا لمنهج الإخوان وتطبيقه على أرض الواقع ، واعتقادهم المطلق أن الصواب دائما فى جانبهم ، وقدرتهم على رؤية الحقائق كما يروق لهم فمثلا بعد أن تمكنت الحمى من جسد عوض الله قال عبد العزيز لطلعت المشرقى : يبدو مريضا أليس كذلك يبدو شديد الشحوب .
 
 فرد طلعت : لقد أضاء الإيمان وجهه .
 
 كيف رأى شحوب وآثار حُمى تنهش جسد عوض الله على أنها نور الإيمان، تلك هى قدرة الجماعة على تفسير الأمور دائما كما يروق لهم.
 
بينما أُحكمت المصيدة جيدا حول عوض الله، يختتم قاسم حالة الصخب المصاحبة لاحتفال جماعة الإخوان بإسلام عوض الله المزعوم بموت صانع الشماسى بعد تمكن الحُمى من جسده. فرت روحه هاربة ربما غضبا من إجبار لم تملك حياله خيار الرفض. 
 
بينما تصعد روح صانع الشماسى إلى بارئها، يتصدر رأى الشيخ المتصوف سيد الحصرى نهاية المشهد بقوله: إنى أجد سكة العبد للصلاح فى رب يعرفه ويرتضيه ويحبه.
 
بدا رأى "قاسم" الرافض لبعض تصرفات الصوفية ومبالغتهم فى الاحتفال بشيوخهم فى روايته أيام الإنسان السبعة، وكذلك رفضه تدين الإخوان الصارم وانقيادهم الأعمى خلف قياداتهم فى المهدى، ليرصد بذلك نمطين للتدين فى الريف ناقدا كليهما عبر شخصية عبد العزيز وإن أبدى ميلا للصوفية فى سماحتها وقبولها للآخر.  
 
انشغل قاسم دائما بالقرية وأهلها وبرع فى تصويرها فى أكثر من عمل أدبى، ذلك النجاح لم يتخل عنه عندما انتقل بأدبه من براح القرية إلى شوارع المدن الخانقة.
 
فقدم روايته "قدر الغرف المقبضة" كنموذج لأدب الأماكن، رصد خلالها أثر المكان فى الإنسان. 
 
نفسُ معذبة بالأماكن، عبد العزيز شخصية "قاسم" الأثيرة، والمرآة الأدبية العاكسة لشخصيته الحقيقية يطل من جديد ليسرد للقارئ ذكريات عبد الحكيم قاسم فى التنقل والحركة الدائمة التى لازمته منذ الطفولة، حيث بدأ حياته  فى ميت غمر ثم انتقل إلى طنطا ثم الإسكندرية ومن بعدها القاهرة ثم السجن خمس سنوات ثم الإقامة بألمانيا عشر سنوات وأخيرا العودة إلى مصر.
 
قال " قاسم" عن روايته قدر الغرق المقبضة فى خطاب لصديقه محمود الوردانى: قصدت أقول أن الإنسان إذا سكن طول حياته فى سكن قبيح فإنه لا يكون أبدا إنسانا جيدا، ولا يكون أبدا قادرا أن يبدع وفى هذه الرواية أحاول فقط أن أفتح العيون على الكارثة.
 
وبالفعل فتح "قاسم" بتلك الرواية عيون القارئ على القُبح المحيط بنا فى مشاهد اعتادت العين رؤيتها، فأصبحت لا تستنكر القبح وكأنه جزءا من طبيعتها.
عاد "قاسم" فى رواية "قدر الغرف المقبضة" إلى أسلوبه الساحر فى الوصف واختيار المفردات. برع خلالها فى تقديم وصف المكان ليس وصفا مجردا ماديا فقط، لكنه أضاف وصفا نفسيا برسم الانطباع النفسى للمكان على الروح، فيصف واحدة من الغرف العديدة التى عاش فيها أثناء دراسته.. "غرفة بالدور الأرضى فى حارة ضيقة لا تدخلها الشمس أبدا، وما يجن الليل حتى ينهمر البَق زحفا على الحيطان مثل مطر حارق كاوِ، حتى يكاد عبد العزيز يبكى قهرا ومذلة."
الحقيقة أن قاسم بقدر ما تحدث عن قُبح البيوت بمرارة وحزن بقدر ما وصفها بعذوبة واقتدار تجعل القارئ يمشى معه بين كل تلك الجدران التى حبست روحه داخلها لسنوات، فتشعر بما شعر به فى حجرته فوق السطوح أو فى حارة ضيقة من حوارى الإسكندرية، قاسم يصف البيوت وكأنها بشر لها أرواح تتعانق مع أرواح ساكنيها فإما تمنحهم الدفئ والطمأنية أو يشقون بها طالما ظلوا بين جدرانها، وعندما وصف بيوت بورسعيد التى رآها بشكل عابر من شباك عربة الترحيلات فى طريقه إلى سجن بورسعيد. وصف بيوتا تتحلى بروح المقاومة كأهلها، وكأن آثار الدمار التى خلفتها الحرب عليها وسام على صدرها يجب أن تفتخر به حتى وإن لطخها الدمار بعار القبح الذى طالما نفر منه قاسم فيصفها قائلا: "حيطان البيوت مجروحة بقذائف القنابل، إن ذلك يعطى الجدران سمة ما، طابعا ما، ربما تكون البيوت أيضا قبيحة، لكن أن تثقبها دانة قنبلة فإن ذلك يمسح عنها سمة الاستسلام البليد لقدر القبح."









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة