"الكاتب الجراح".. ظاهرة عالمية تفرض نفسها على الأدب

الأربعاء، 05 يوليو 2017 09:00 م
"الكاتب الجراح".. ظاهرة عالمية تفرض نفسها على الأدب الكاتب والطبيب محمد كامل حسين
أ ش أ

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فيما عرف الأدب سواء فى مصر أو الخارج أطباء تحولوا إلى أدباء مبدعين فإن الثقافة الغربية تشهد حاليا ظاهرة جديدة هى ظاهرة "الكاتب الجراح" التى تثرى العلاقة بين الطب والأدب. 
 
فهناك تصاعد فى عدد الكتب الجديدة التى تصدر بأقلام أطباء جراحين فى بريطانيا والغرب عموما وتتناول عالمهم الخطر الذى يواجهون فيه دوما أسئلة الحياة والموت كما يقول القاص والكاتب السينمائى والمسرحى البريطانى ويليام بويد بعيدا عن التفاصيل الطبية والمصطلحات العلمية والجوانب التقنية لطب الجراحة التى قد لايفهمها سوى من يعمل فى هذا المجال.
 
فهى كتب تتناول الجوانب النفسية والاجتماعية والشعورية للأطباء الجراحين وتآملاتهم ورؤيتهم لعملهم وعالمهم والمرضى الذين يتعاملون معهم وبما يشكل "لبنة جديدة لما يسميه ويليام بويد بأدب الطب الجراحى".
 
وكأن طب الجراحة يجد صوته فى الأدب فيما يسعى الكاتب للاجابة إبداعيا عن أسئلة كثيرة تتعلق بالأطباء الجراحين وعالم العمليات الجراحية بمسؤولياته ومخاطره وآلامه ودوافع العمل والحوافز النفسية.
 
وويليام بويد الذى ولد فى السابع من مارس عام 1952 بالعاصمة الغانية أكرا عرف عالم الطب والجراحين لأن والده الأسكتلاندى كان طبيبا عمل طويلا فى اعماق القارة الافريقية وتنقل مابين غانا ونيجيريا وهو يسلم فى طرح مستفيض بصحيفة الجارديان البريطانية بأن معطيات البيئة والتنشئة أثرت فى اهتماماته ومن بينها متابعة وقراءة كل جديد فى كتابات وكتب اطباء جراحين تتناول تجاربهم وخبراتهم فى العمل والحياة.
 
ولاريب أن عالم الطب الجراحى يثير الخيال وخاصة لهؤلاء الذين يعملون خارج هذا الحقل الطبى بقدر مايطرح اسئلة حول هؤلاء الأطباء الذين يحملون المشارط ويشقون بها الجسد الانسانى الحى كما يقول ويليام بويد كاتب افلام "الخندق" و"رجل طيب افريقيا" و"مستر جونسون". 
 
وفى عام 1994 صدرت قصة لويليام بويد بعنوان  "بعد الظهيرة الزرقاء" وكان بطلها يعمل كطبيب جراح فيما يستعيد بعض مادار فى ذهنه أثناء كتابة هذه الرواية حيث كان أحد أفراد عائلته قد خضع لجراحة خطرة بينما تسأل ابنة الجراح فى هذه القصة والدها عن تعريف صاف لهذه المهنة.
 
ويجيب الطبيب الجراح فى تلك القصة ابنته عن سؤالها بأن يناولها المشرط ويمد لها ساعده ويطلب منها ان تصنع بالمشرط شقا صغيرا فى ساعده لعلها تعرف الاجابة عمليا ثم يعود ليقول لها ان الجراحة فى بعض الأوقات قد تكون اشبه بمشرط يجوب فى صلصال او شمع يسهل تشكيله وفى اوقات اخرى قد تكون اقرب لمن يقطع فى دجاجة مجمدة.
 
ولعل الثقافة العربية بحاجة لكتب على غرار تلك الكتب التى تشكل الآن بتصاعدها ظاهرة لافتة فى الثقافة الغربية لأطباء من كبار الجراحين بعضها سير ذاتية لهم وبعضها الآخر تسرد خبراتهم وتجاربهم الانسانية وذكرياتهم فى مجال عملهم وتخصصهم الطبى وهناك أيضا من الأطباء الجراحين فى الغرب من سجل تجاربه فى العمل اثناء الحروب. 
 
وهذه الظاهرة لها جذور تاريخية لأن بعض الكتب فى الغرب تتناول تجارب اطباء جراحين فى الحرب العالمية الأولى وصولا لحروب تالية لتدخل كأعمال أصيلة فى الذاكرة الثقافية الغربية وهى أعمال تتزايد فى السنوات الأخيرة. 
 
والكاتب ويليام بويد كمستهلك شره لتلك الكتب يرى أن المكتبة الغربية بحاجة لمزيد من هذه النوعية من الكتب لأطباء جراحين من أصحاب التجارب والخبرات الإنسانية الأصيلة والجديرة بالتسجيل كأعمال لاتخلو أيضا من أبعاد غرائبية فى الحياة الإنسانية.
 
ومن الكتب التى يشير لها ويليام بويد فى هذا السياق كتاب "مضاعفات" الصادر عام 2003 لأتود جاواند وكتاب صدر عام 2009 بقلم الطبيبة الجراحة والكاتبة جابريل ويستون بعنوان :"احمر فورا" وهناك عدة كتب صدرت فى العامين الأخيرين حول عالم الجراحة وبأقلام أطباء جراحين من بينها: "افعلها بلا أذى" لهنرى مارش و"هذا الكائن الحى والشىء الخالد" لأوستين دوفى و"هموم القلب" لتوماس موريس و"حيوات هشة" لستيفن ويستابى وهاهو كتاب "اقرارات: حياة فى جراحة المخ" لهنرى مارش قد صدر منذ أيام قليلة فى العاصمة البريطانية لندن.
 
وهذا الاتجاه التصاعدى فى الآونة الأخيرة على مستوى إصدارات الكتب التى تتناول عالم طب الجراحة والأطباء الجراحين يؤشر كما يرى ويليام دويل إلى "صوت جماعى هو وليد شعور الأطباء الجراحين بالحاجة إلى التعبير عن عالمهم الخطر بأصواتهم ومشاعرهم ونظراتهم لأنفسهم وهم يواجهون بصورة مباشرة على مسرح عملهم أناء الليل واطراف النهار أسئلة الحياة والموت".
 
فطبيب جراح مثل بريندان موران المتخصص فى جراحات أورام القولون أجرى ما يزيد على 2000 عملية جراحية كبرى على مدى 30 عاما شهد فيها الكثير من الحالات لبشر يتألمون دون أن يتخلوا عن الأمل فى الحياة وهنا قد يجسد الطبيب الجراح الأمل الذى يتعلق به المريض وهنا أيضا يكون التحدى الإنسانى الكبير وينبغى للجراح العظيم أن ترتقى استجابته لمستوى التحدى فى معركة الحياة والموت.
 
وهنا أيضا يكون السؤال حول انعكاسات طبيعة العمل بكل معطياته القاسية وحالاته العصيبة على حياة الطبيب الجراح ومدى حساسيته ككائن إنسانى كما يقول ويليام دويل، وهنا قد يكون البوح مفيدا سواء للطبيب الجراح أو لهؤلاء الذين يعيشون خارج مسرح العمليات الجراحية بشروطه ومشارطه وآلاته الحادة والتى تشكل معا أدوات ما يصفه الطبيب الجراح بريندان موران بتعبير دال هو "الاعتداء المشروع". 
 
وبعد سلسلة مقابلات مع أطباء جراحين من المشاهير مثل بريندان موران يخلص الكاتب ويليام دويل بأن "كل جراح عظيم تطارده الأشباح فى كل فراش وكل سرير لمريض" كما أن هؤلاء الأطباء العظام من الجراحين أمسوا من واقع خبراتهم وتجاربهم "يحترمون بشدة عامل المرونة التى يتمتع بها الكائن الإنسانى وتشكل السبيل لتجسيد إرادة المريض فى دفع الموت أو دافع الإنسان المبتلى للبقاء على قيد الحياة".
 
وخلافا لما قد يتصوره البعض فإن الجراح العظيم ليس ذلك الطبيب المتورم الذات أو المنتفخ غرورا وإنما كل من التقاهم ويليام دويل من الجراحين العظام يؤمنون بأنهم مهما أوتوا من العلم والمهارات والخبرات كثيرا ما يواجهون فى مسرح العمليات عدوا مراوغا وظروفا ومعطيات خارج السيطرة ومن هنا فهم يسلمون "بذلك الشىء الذى يسمى بعامل الحظ أو الطالع الحسن أو السىء فى نجاح أو فشل عملياتهم الجراحية" واللافت كما لاحظ دويل أنه "كلما زادت خبراتهم كلما ازدادوا اقتناعا بهذه الفكرة".
 
وهؤلاء الكبار من الأطباء الجراحين كما توضح كتبهم لا ينسى الواحد منهم أبدا عملية فاشلة قام بها حتى لو كان قد أجرى مقابل كل عملية فاشلة تسع عمليات جراحية ناجحة فيما تعبر رؤيتهم الفلسفية فى مجال عملهم عن مزيج دقيق من "الأمل والواقعية معا" ويقاربون المرضى "بمزيج دقيق ومتوازن أيضا من الانفصال والتعاطف" على حد تعبير الطبيب الجراح هنرى مارش صاحب الكتاب الجديد "حياة فى جراحة المخ". 
 
ومن نافلة القول إن الكاتب والأديب ويليام دويل يشعر بارتياح حيال توالى الكتب الجديدة للأطباء الجراحين الذين عرفهم جيدا بحكم مهنة والده ثم بحكم صداقته الوثيقة- كما يقول- لثلة من الأطباء الجراحين الذين باتوا يحظون بشهرة عالمية. 
وهاهو يسعى فى طرحه المستفيض بصحيفة الجارديان البريطانية لاستكشاف ملامح فلسفة مشتركة تجمع مابين هؤلاء الأطباء الجراحين من اصحاب الكتب الجديدة او الجيل الجديد من الكتاب الجراحين" والذين يصف كل منهم "بالكاتب الجراح". 
 
وإذا كانت هذه الكتب الجديدة قد وصفت فى الصحافة الثقافية الغربية بأنها تمثل باتجاهها التصاعدى "صوتا مميزا لطب الجراحة فى الأدب بقدر ماتثرى العلاقة بين الطب والأدب" فان الأمر قد يثير بالتداعى تساؤلات حول مدى تقبل الثقافة العربية لظاهرة مماثلة بل وقد يطرح تساؤلات حول الجديد فى علاقة الطب بالأدب فى الثقافة العربية.
 
ولئن كان ويليام دويل قد اعاد للأذهان حقيقة ان بعض أعلام الأدب العالمى كانوا فى الأصل أطباء مثل الروسى أنطون تشيخوف والبريطانى سومرست موم الذى انخرط أثناء الحرب العالمية الأولى بسلاح الخدمات الطبية على الجبهة الفرنسية قبل ان ينتقل للعمل فى المخابرات البريطانية وآرثر كونان دويل صاحب "قصص شرلوك هولمز" والشاعر الأمريكى ويليام كارلوس ويليامز وغيرهم فان الثقافة المصرية والعربية عموما عرفت ظاهرة مماثلة.
فمن الذى ينسى اطباء ومبدعين كبار فى الأدب مثل يوسف إدريس وإبراهيم ناجى ومصطفى محمود ومحمد المنسى قنديل ومحمد المخزنجى ناهيك عن الجراح العظيم والأديب الكبير الدكتور محمد كامل حسين صاحب العمل الأدبى الخالد "قرية ظالمة"؟!.
وإذا كان طرح الكاتب البريطانى ويليام دويل يتعلق بظاهرة "الكاتب الجراح" فالدكتور محمد كامل حسين الذى جمع بامتياز مابين طب الجراحة واللغة والأدب ولد عام 1901 وقضى عام 1977 كان أستاذا لجراحة العظام وأول رئيس لجمعية جراحة العظام المصرية عند تأسيسها عام 1948 كما كان عضوا فى مجمع اللغة العربية الشهير "بمجمع الخالدين" ورئيسا للمجمع العلمى بالقاهرة.
 
وفيما يفخر تاريخ الطب المصرى ويزهو باسم الجراح العظيم الدكتور محمد كامل حسين الذى كان أول من أجرى فى مصر جراحات مثل عمليات الانزلاق الغضروفى بالعمود الفقرى واسئصال أورام الغدة النخامية وعلاج الكسور بالمسامير النخاعية فإن تاريخ الأدب المصرى والعربى يفخر ويزهو بالأديب محمد كامل حسين الذى ابدع فى اللغة والأدب معا وتوجت روايته "قرية ظالمة" بجائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام 1957.
 
ومحمد كامل حسين الذى توج أيضا بجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الطبية عام 1966 أسس فى مصر والعالم العربى لظاهرة الكتابة الأدبية والثقافية فى الطب بأعمال مثل "طب الرازى" و"التحليل البيولوجى للتاريخ" وهو أيضا صاحب العمل الثقافى الرائد "وحدة المعرفة" وكأنه بذلك قد دشن على نحو ما فى ثقافتنا المصرية والعربية للظاهرة التى تتصاعد الآن فى الغرب وهى "ظاهرة الكاتب الجراح". 
وفيما يتفق أغلب النقاد على أن سيد القصة القصيرة المصرية الدكتور يوسف إدريس الذى كان كيانا من ذكاء وحماس ملهم للآخرين قد تأثر ادبيا بممارسته لمهنة الطب عدة سنوات واستفاد فى كتبه وكتاباته من التواصل مع المرضى أو الإنسان فى لحظات ضعفه وبات صاحب حساسية فائقة فى التعبير عن هموم البشر فإن هذا الطبيب الأديب الذى ولد عام 1927 وقضى عام 1991 سيبقى أمثولة للإبداع المصرى.
 
ومع أن يوسف إدريس كان بعيدا عن الطب الجراحى وتطلع لممارسة الطب النفسى فإنه نبغ فى "إبداعات القصة القصيرة التى تعد فى الواقع نوعا من معالجة جراح النفس الإنسانية" فيما مضى الدكتور محمد المخزنجى الذى عمل فى الطب النفسى فى تجربة إبداعية تركت بصماتها فى مجال القصة القصيرة وكذلك فعل القاص والروائى الدكتور محمد المنسى قنديل الذى بزغت موهبته الأدبية وهو طالب بكلية طب المنصورة عندما لفت الأنظار بقصة "أغنية المشرحة الخالية" التى تصور مشاعر طالب فقير فى كلية الطب.
 
وفى مطلع الألفية الثالثة كان الطبيب والجراح المصرى الشاب رشاد فؤاد قد لفت الأنظار برواية صدرت حينئذ بعنوان "بلا جذور" فيما نفى بشدة فى مقابلة صحفية صحة مقولة أن "قلب الجراح بلا مشاعر" غير أنه يبدو أن جراحات الليزر قد انتصرت على النزعة الأدبية لهذا الجراح.
 
أما الطبيب والشاعر المصرى الدكتور أحمد تيمور فيوازن بين احترافه الطبى فى مجال الأمراض المتوطنة وإبداعاته فى الشعر معتبرا أن الطب والشعر يهتمان معا بالإنسان وأن اختلف منظور الاهتمام فالطب يهتم بالجسد والشعر غذاء الروح على حد قوله فيما يحرص على إقامة صالون ثقافى شهرى رغم انشغالاته الطبية كأستاذ بكلية الطب فى جامعة الأزهر.
 
ومن يدرى لعل كليات الطب فى جامعات مصر تقدم غدا وجوها ناضرة فى الطب والأدب معا وأطباء جراحين يبادر بعض الموهوبين فيهم بالكتابة الثقافية عن عالم الطب الجراحى ونرى هنا "ظاهرة الكاتب الجراح" التى تثير الآن اهتماما لافتا فى الثقافة الغربية..لعلنا على موعد مع جيل جديد ومبدعين جدد فى مصر المبدعة !..لعل الغد يأتى "بالكاتب الجراح" الذى يهوى السباحة بين ضفتى الجراحة والكتابة !. 









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة