فى ذكراها الـ 65.. الوجه الثقافى المضىء لثورة 23 يوليو

السبت، 22 يوليو 2017 01:12 م
فى  ذكراها الـ 65..  الوجه الثقافى المضىء لثورة 23 يوليو  ثروت عكاشة
أ ش أ

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وسط اهتمام كبير على الصعيدين الثقافى والإعلامى تحتفل مصر غدا "الأحد" بالذكرى الخامسة والستين لثورة 23 يوليو فيما يلهم الوجه الثقافى المضىء لهذه الثورة المثقفين ويثرى التاريخ الثقافى العربى.
 
وثورة 23 يوليو 1952 حلقة فى سلسلة متصلة من كفاح المصريين من أجل الحياة الحرة الكريمة، بقدر ما عبرت عن أصالة إرادة المواجهة فى لحظة التحدى حتى لحسابات ومصالح قوى كبرى فى العالم وهو ما تجلى أيضا فى ثورة 30 يونيو 2013، والتى جاءت ردا على تحديات وجودية كانت تهدد بفداحة مصر والمصريين وهويتهم ومنظومة قيمهم ودولتهم الوطنية التى هى دولة كل المواطنين تحت سماء الوطن الواحد.
 
ولعل حقيقة الارتباط بين الثورتين ضمن السلسلة المتصلة لكفاح شعب مصر من أجل الحياة الحرة الكريمة وعلى قاعدة قيم إنسانية هى قيم الحق والخير والجمال تتجلى فى أن ثورة 23 يوليو تعرضت وتتعرض دوما لهجوم شرس وافتراءات ومغالطات تاريخية عديدة من جانب الجماعة، التى أرادت خطف الدولة الوطنية المصرية حتى جاءت ثورة 30 يونيو لتنقذ مصر والمصريين من التسلط الظلامى والإرهابى لهذه الجماعة التى تتوهم الآن أن ممارسات الإرهاب يمكن أن تعيد عقارب الساعة للوراء أو تعود بها إلى ما قبل ثورة 30 يونيو.
 
وإذ تستمر عملية التحليل والتقييم الموضوعى لثورة 23 يوليو شأن أى حدث تاريخى كبير تؤكد هذه الثورة المصرية الخالدة على مكانتها العالية فى التاريخ الثقافى العربى وأصالة مواريثها الثقافية سواء على مستوى القضايا الفكرية التى مازالت تلهم كبار المثقفين العرب وتحفزهم على مزيد من البحث والإبداع أو على مستوى الانجازات الثقافية المضيئة حتى الآن على امتداد الوطن.
 
ولئن كانت ثورة 23 يوليو قد شكلت ثقافة وطنية ضد الهيمنة الأجنبية مرتكزة على حضارة شعب راسخ فى أرضه عبر آلاف الأعوام فإنها امتلكت الارادة لصنع تاريخ جديد حافل بصفحات مضيئة وأفكار بناءة ومشاريع تترجم على الأرض هذه الأفكار بقدر ماتمنحها مصداقية لدى الجماهير.
 
وهذه الثورة بما شكلته من مشروع وطنى وماتبنته من رؤى قومية للأمة العربية كان تأثيرها الثقافى عميقا بكل المقاييس فيما منحت القاهرة المزيد من الألق كعاصمة ثقافية للمنطقة كلها واحد أهم المراكز الثقافية على المستوى الكونى.
 
وبين انتصاراتها وانكساراتها ثمة حاجة لدراسات متعمقة فى التاريخ الثقافى حول "النموذج الثقافى لثورة 23 يوليو" بعيدا عن الغلو فى التمجيد او التسفيه والتجريح وبروح من الموضوعية ومراعاة السياقات التاريخية ومعطيات زمنها وعصرها الذى يختلف عن الواقع الراهن بتحدياته الجديدة.
 
ولعل الإلهامات الفكرية لثورة 23 يوليو و"الناصرية" تتجلى فى كتاب "الفكر العربى وصراع الأضداد" للمفكر العربى البحرينى الدكتور محمد جابر الأنصارى وهو عمل ثقافى رفيع المستوى بقدر ما أثار جدلا بين مثقفين كبار على مستوى العالم العربى.
 
وفى هذا الكتاب ينقب الدكتور محمد جابر الأنصارى فى الثقافة التى شكلت وعى جمال عبد الناصر باعتباره قائد ثورة 23 يوليو مشيرا لتأثره بقصة "الزهرة القرمزية" للكاتبة الانجليزية بارونس اوركزى والتى تدخل فى ادب المقاومة والثورة الفرنسية وكتاب "ألأبطال" لتوماس كارليل ورواية تشارلز ديكنز "قصة مدينتين" وعبقريات عباس محمود العقاد ناهيك عن أعمال توفيق الحكيم، خاصة رواية "عودة الروح".
 
ويرى الدكتور محمد جابر الأنصارى أن الناصرية جاءت استجابة توفيقية بين الخيار الليبرالى والخيار الاشتراكي، معتبرا أن الفكر الليبرالى قد تراجع حتى منذ عشية ثورة 23 يوليو فيما شمل النكوص والارتداد بعض رموز هذا التيار مثل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل.
 
فبعد التفاؤل الكبير الذى أبداه الدكتور طه حسين فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" عام 1939 جاء كتابه "المعذبون فى الأرض" مرثية تاريخية "للفكرة-الحلم" أى "مصر الليبرالية المتوسطية" وسرعان ما انضم إلى ركب أعداء التوجه الليبرالى بينما حاول مثقف مصرى كبير مثل توفيق الحكيم الخلاص من المعاناة والاختلال بالاحتماء بفلسفته المبنية على فكرة "ألا تسود قوة وحيدة او تطغى فى اى مجال من الحياة والكون".
 
غير أن ثورة 23 يوليو لم تكن فى نظر المفكر محمد جابر الأنصاري" بالشمول المطلوب وانحصرت فى كونها صياغة جديدة متطورة ومرنة للنظرية التوفيقية ومركباتها التصالحية المتفرعة عنها فى السياسة والاجتماع" فهذه الثورة على حد تعبيره "ثورة فى التوفيقية لاثورة عليها" وهذا مالاحظه الفيلسوف الفرنسى الشهير جان بول سارتر عندما زار مصر فى شهر مارس عام 1967. 
ومع أن هناك من كبار المثقفين العرب من يعود "بالنزعة التوفيقية" إلى "الفكر الوسطى العربى وطبيعتنا الثابتة فى شخصيتنا الجماعية وحتى موقع الوطن العربى الكبير الذى يتوسط العالم" فإن الدكتور محمد جابر الأنصارى يذهب إلى أن "النزعة التوفيقية" فى الفكر العربى بمثابة "اختيار فلسفى مريح ويسهل الدفاع عنه" معتبرا أنها "فلسفة ازدواجية ذات منهجين فى البحث ومنشطرة بلا حسم بين الفلسفة المثالية والفلسفة المادية".
 
ولايعنى كل ذلك رفض محمد جابر الأنصارى "للتوفيقية" او تأييده لضرورة الخلاص من تلك النزعة الفكرية وإنما يرى ضرورة اقامتها على "اسس أرسخ والتوفيق بين جوهر النظامين المطلوب التوفيق بينهما لا المظاهر حتى لاتكون مجرد مركب تلفيقى لاقيمة له".
ولم تكن "النزعة التوفيقية" فى بعض الأحداث الجسام بقادرة على الاستجابة المثلى لتحديات عديدة "جوهرها حضارى مثل قضية التحديث" ورد العدوان على الأمة العربية كما ان الحيرة تتصاعد لأنه ليس من المقبول ولا من المعقول "ان ينبطح الفكر العربى تماما ويستقيل امام الفكر الوافد من الغرب". 
وهكذا فان الدكتور محمد جابر الأنصارى يطالب بأن يقرر الفكر التوفيقى أى تيار من تيارات الحضارة الحديثة هو الأقرب الى روحه وان يصل التوفيق الى مستوى المندمج العضوي" رافضا مايسميه "باللاحسم" فيما يرى البعض ان للمشكلة مظاهرها المتعددة وتمزقاتها الظاهرة حتى على مستوى الكثير من المثقفين "الذين يقولون ولايفعلون او يفعلون مالا يقولون !.
والظاهرة كما يرصدها الأنصارى تمتد ايضا لتشمل فصيلا قوميا اخر هو حزب البعث كما اسسه المفكر السورى ميشيل عفلق وهاهو يتحدث عن "توفيقية البعث حيث تعايش عنصران متميزان: عنصر ايمانى روحى مثالى وعنصر عقلانى مادى واقعي" على حد قوله.
وللحق فإن مايقوله الدكتور محمد جابر الأنصارى مفيد فى الاجابة على اسئلة عصيبة وتساؤلات مؤرقة مثل: "لماذا أخفقت المشاريع النهضوية العربية مقارنة بالمشاريع الأسيوية التى نجحت فى استيعاب ضغوط التغريب ومشاكل التحديث". 
وإذا كانت الرؤية المتعمقة للكتابات والطروحات السياسية عن ثورة 23 يوليو تكشف عن اختلافات وخلافات فى النظرة والتقييم فان الرؤية ذاتها تكشف فى المقابل عن نوع من الاتفاق العام بين المثقفين على أن هذه الثورة قدمت الكثير من الانجازات الثقافية وانطلقت فى انجازاتها من "مفهوم العدالة الثقافية".
ففى ستينيات القرن العشرين وبقيادة أحد ثوار يوليو وهو الدكتور ثروت عكاشة الذى كلف بحقيبة وزارة الثقافة بلغت القوة الناعمة المصرية حينئذ ذروة عالية وازدهرت المجلات الثقافية و فنون السينما والمسرح. 
ولئن كانت الذكرى 65 لثورة 23 يوليو مناسبة لاستدعاء ذكرى "الضمير الثقافى لهذه الثورة كما تجسد فى الراحل العظيم الدكتور ثروت عكاشة بانجازاته الثقافية الخالدة كأبرز وزير ثقافة فى الحقبة الناصرية " فان من دواعى الانصاف وطبائع الأمور القول بأن هذا الوزير المفكر لم يكن لينجز كل ما أنجزه لولا دعم ومساندة جمال عبد الناصر قائد الثورة ورئيس الدولة.
وهكذا وفى ظل هذا الدعم والمؤازرة تسنى لثروت عكاشة "فارس السيف والقلم والوجه الثقافى المضيء لثورة 23 يوليو" أن ينقذ آثار النوبة ومعابد ابو سمبل وفيلة من الغرق اثناء تنفيذ مشروع السد العالى وان يقيم صرحا عملاقا مثل اكاديمية الفنون بمعاهد الباليه والكونسرفتوار والسينما والفنون المسرحية وينشر قصور الثقافة لتقديم خدمة ثقافية لن ينساها التاريخ لجماهير شعبنا فى كل مكان.
أنه حقا "الوجه الثقافى المضيء والنبيل لثورة 23 يوليو" الذى أقام قاعة سيد درويش للاستماع الموسيقى واعاد تكوين اوركسترا القاهرة السيمفونى وفريق اوبرا القاهرة فضلا عن عروض الصوت والضوء بالأهرام والقلعة ومعبد الكرنك.
إنه ثروت عكاشة وزير الثقافة فى عصر ثورة 23 يوليو والعضو بالمجلس التنفيذى لليونسكو الذى أوفد معارض الآثار المصرية للخارج لأول مرة ليحقق التواصل الحضارى والثقافى بأروع معانيه وهو الذى اقام متحف مراكب الشمس ومتحف المثال محمود مختار ودار الكتب القومية ونظم احتفالية باقية فى ذاكرة التاريخ الثقافى المصرى والعالمى فى العيد الألفى للقاهرة عام 1969.
 
وفى غمار كل هذا الجهد الثقافى العملاق لم يتوقف ثروت عكاشة الحاصل على درجة الدكتوراه فى الأدب من جامعة السوربون بباريس عام 1960 عن الكتابة والابداع ليقدم للثقافة العربية والعالمية موسوعته فى تاريخ الفن :"العين تسمع والأذن ترى" والتى جاءت فى 20 جزءا ويحقق "كتاب العارف لابن قتيبة" ويقدم كتاب "مصر فى عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء"وعشرات المؤلفات والأبحاث بالانجليزية والفرنسية.
والدكتور ثروت عكاشة الذى قضى فى السابع والعشرين من فبراير عام 2012 هو أيضا صاحب المعجم الموسوعى للمصطلحات الثقافية فيما لاغنى لأى باحث جاد فى دراسة "الحياة الثقافية فى مصر الناصرية" عن كتابه الهام "مذكراتى فى السياسة والثقافة" ثم انه صاحب كتاب هام عن القائد المغولى جنكيز خان بعنوان "اعصار من الشرق" ولايمكن ايضا تناسى طروحاته عن مبدعين فى حجم ليوناردو دافنشى او الموسيقار الألمانى ريتشارد فاجنر وترجماته لروائع جبران خليل جبران.
والذاكرة الثقافية المصرية والعربية على وجه العموم تحتفظ بكل هذه الجهود العملاقة والابداعات للوجه الثقافى المضيء لثورة 23 يوليو ومن بينها ترجمات هى سحر فى البيان مثل رائعة "فن الهوى" ورائعته الأخرى "مسخ الكائنات" وكتاب الايرلندى الخالد برنارد شو: "مولع بفاجنر".
ومن هنا قال عنه الناقد الراحل رجاء النقاش :"الدكتور ثروت عكاشة رجل له صوت وضوء والمؤسسات الرفيعة التى انشأها بل انجبها هذا الرجل سوف تبقى مابقيت مصر" ولاريب انه فى ذلك كله يعبر عن رؤية ثقافية لقائد ثورة 23 يوليو جمال عبد الناصر الذى ارتبط به وجدانيا.
وبعد الرحيل الفاجع والمبكر لقائد ثورة 23 يوليو يوم الثامن والعشرين من سبتمبر الحزين عام 1970 رثاه ثروت عكاشة بقوله :"ومضى القائد العظيم..مضى بعد وقفة قصيرة بيننا لكنها خلاقة اخذنا فيها من ركود ماضينا الى وثبات مستقبلنا" فيما اختتم عكاشة طرحه بمرثية الأرض التى ألف موسيقاها النمساوى جوستاف مالر :"لن ابتعد الى الأبد..الى الأبد".
ومصر التى ثارت منذ 65 عاما فى يوم خالد لم تبتعد أبدا عن روح ثورة 23 يوليو وأحلامها النبيلة وطموحاتها العظيمة وهاهى تؤسس بعد ثورة 30 يونيو للتقدم كسبيل لتجسيد معانى الاستقلال فى هذا العصر بتحولاته العميقة التى تتطلب استحقاقاتها علما وخيالا وارادة وتجددا معرفيا مستمرا تشكل كلها مايمكن وصفه حقا "بثقافة المستقبل".






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة