فيما دخل الشهر الفضيل أسبوعه الثانى تكتب القاهرة نصها الرمضانى البهى فى حى الحسين على الإيقاع البهيج لحشود البشر الذين يجددون المعنى الكبير لثقافة المكان عاما بعد عام.
هنا فى هذا الحى القاهرى العتيق الذى يفتح ذراعيه للجميع كل شىء وكل الوان البشر وهنا يتجلى معنى رمضان المصرى فى أيقونة صنعها التاريخ وحوارات الأزمنة بعفوية ودون تصنع أو تكلف وتتصافح إبداعات متعددة لتمنح المزيد من الحضور والزخم للمجازات الذهنية والأدوار الرمزية لحى الحسين كقطب جاذب فى ثقافة المكان للإبداعات الأدبية والفنية.
وذاكرة حى الحسين القاهرية "كمنطقة فوق العادة" على حد تعبير مانويل كاستلز عالم الاجتماع الثقافى والاتصال الجماهيرى هى ذاكرة رمضانية بامتياز وهى ذاكرة لها سطوتها المحببة فى المجال العام وتفاعلاته بقدر ماتحولت لعلامة متروبوليتانية لمدينة لها حضورها الكونى وعشاق حول العالم.
وككل عام أخذ حى الحسين زينته الرمضانية هذا العام بالأنوار والفوانيس والبيارق بينما تتكاثر حلقات الذكر لتضفى المزيد من الخصوصية الرمضانية لهذا الحى الذى يتصل ليله بنهاره فى الشهر الفضيل.
ولا ريب أن حى الحسين القاهرى كعلامة دالة على الهوية والانتماء المصرى هو "حى مؤسس للبهجة الكونية الرمضانية" كما أنه يعبر ببساطة وبلاغة معا عن ثقافة المصريين المنتصرة للحياة والمحتفلة بها فى عديد التعبيرات والإشارات والإيماءات ما بين مفردات اللغة وتبادل التحية وسلوكيات السماحة والتسامح وطقوس الترفيه وفضاءات الحميمية والفطرة الطيبة ولكأن الإنسانية كلها انخرطت واندمجت فى ليالى الحسين الرمضانية.
وتتجلى الثقافة الشعبية المصرية فى االليالى الرمضانية بحى الحسين فيما يرتفع الدعاء لمصر من قلوب المحبين لآل البيت الأطهار لعنان السماء ويتوهج الحى العريق حتى إطلالة الفجر عندما يودع الآلاف والآلاف من زوار جاؤوا من كل مكان للمكان الذى تحول فى مخيالهم الجمعى الى شارة عز ونفحات ايمانية فوق خرائط المجد القاهرية بينما صنع كل محب لهذا الحى "صورته الخاصة من متن ذكرياته فى الحسين التى تصنع سيرة عشق للمكان".
ويكاد "رمضان المصرى لا يكتمل عند الكثيرين إلا بقضاء ليلة فى الحسين" حيث تتوافد الجموع على المسجد الكبير فى المنطقة التى شرفت باسم الحسين وباتت ساحته الحافلة بالرموز الثقافية وبديع المعمار والحوارات الجمالية والروائع التراثية تحمل عبقا مصريا بالغ الخصوصية فيما يتشابه المشهد إلى حد كبير فى حى مثل منطقة السيدة زينب التى شرفت بهذا الاسم .
وإذ يعد مولدا الحسين والسيدة زينب أكبر مولدين بالقاهرة تفيد تقديرات معلنة أن ما لا يقل عن مليون زائر يشاركون فى الاحتفالات الكبرى سنويا بمولد الحسين فضلا عن شقيقته السيدة زينب ويجتذب الاحتفال الشعبى بذكرى مولد الحسين العديد من الزوار من خارج القاهرة فيما تضفى الطرق الصوفية بمريديها الكثير من طقوسها ومباهجها على المكان الذى لا ينام فى ليالى رمضان بمحيطه وشوارعه ودروبه وخاناته ووكالاته وأزقته ومقاهيه وشخوصه وحكاياته المتناسلة عبر مسيرة الأجيال وحنين النوستالجيا القاهرية الرمضانية ومنابع البراءة النقية.
وفى ليالى الحسين الرمضانية يموج المكان فرحا بشتى اللغات واللهجات واللكنات لبشر جاؤوا من كل مكان وتتألق عناقيد النور على ايقاع سهرات الانشاد الدينى فيما كان وزير الثقافة حلمى النمنم ورئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة صبرى سعيد قد افتتحا "ليالى رمضان الثقافية والفنية" التى تنظمها الهيئة بمسرح سور القاهرة الشمالى فى شارع المعز وتستمر حتى منتصف الشهر الفضيل.
ويهتم الباحثون فى تخصصات ثقافية مختلفة من بينها التاريخ الاجتماعى والانثربولوجى وعلم الاجتماع الثقافى بتلك الاحتفاليات والليالى الرمضانية فى حى الحسين باعتبارها مادة للدراسة والإبحار المعرفى فى الطرق والجماعات الصوفية ووظائفها الاجتماعية والثقافية.
وواقع الحال أن الثقافة المصرية تتجلى فى صور متعددة بهذا السياق الاحتفالى الذى يظهر ايضا من المنظور الثقافى ان اللغة ليست كلمات فقط وانما هى ايضا ايماءات وسلوكيات ورموز وطريقة إخراج على حد قول الباحثة آنا ماديوف فى معرض تناولها لهذه الحشود الاحتفالية العارمة.
وإذا كانت الليالى الرمضانية فى الحسين حدث يلتحم ويتفاعل مع ثقافة وتقاليد المكان كما انه "مناسبة زمانية للذاكرة الحية" فان هذا الاهتمام والتدبر فى المعانى والإشارات يعيد للأذهان ما تحمله إبداعات وكتابات أدباء ومفكرين مصريين من اهم رموز الثقافة المصرية حيث تسطع شخصية الحسين واسمه كما هو الحال فى ثلاثية نجيب محفوظ ومسرحيتى عبد الرحمن الشرقاوى "الحسين ثائرا" و"الحسين شهيدا" ناهيك عن كتاب "الحسين أبو الشهداء" لعباس محمود العقاد.
وكذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر ظهرت الكتابات الحديثة حول احتفالات مولد الحسين فى كتاب "الخطط التوفيقية الجديدة" الذى وضعه "على باشا مبارك" فيما تفاعل روائيون مصريون كبار مثل يحى حقى وعبد الحكيم قاسم مع هذه الاحتفاليات كما يتجلى فى إبداعهم الروائى الى جانب السير الذاتية لآباء ثقافيين فى قامة الدكتور طه حسين والدكتور سيد عويس.
وبقدر ما نشأت الليالى الرمضانية فى الحسين وتطورت متفاعلة مع الشخصية المكانية والثقافية لهذا الحى القاهرى فإنها تعيد تشكيل المكان فيما القمم العالية لمآذن المسجد الحسينى تكللها حبال من الأضواء الملونة وتنساب حبال الأضواء من المسجد بإشراقات فوق الشوارع والأزقة وتضاريس البنايات والأناشيد الايقاعية للذكر الصوفى فى محيط الاحتفال بالليالى العطرة.
حتى الزمان يتغير مع التحام الليل والنهار بالبهجة والأضواء والحيوية والروح المصرية المحتفلة بالحياة بينما يتوزع المكان مابين كل انواع البشر وتعدد المستويات الاجتماعية والثقافية فى مناطق صاخبة وأخرى للتأمل والكل جاء طلبا للمدد وحبا للحسين والذكرى وراحة القلب.
ومن قبل ذكر الكاتب الراحل أنيس منصور أن جسد الحسين فى كربلاء بالعراق أما رأس " سيد شباب أهل الجنة وحفيد سيد الخلق" فقد استقرت فى دمشق بعد أن طافت عدة مدن من بينها كربلاء والمدينة المنورة والقاهرة وعسقلان وحلب والرقة.
غير أن الكاتب الصحفى الكبير عبد الرحمن فهمى يؤكد استنادا على شهادة للشيخ منصور الرفاعى الذى شغل منصب الوكيل الأول لوزارة الأوقاف وكان مسئولا عن المساجد أن رأس الحسين فى ضريح مسجده الشهير بالقاهرة.
ويتفق ذلك مع نتيجة خلصت لها عالمة الآثار الإسلامية الدكتورة سعاد ماهر وصاحبة كتاب "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" وهى أن رأس الحسين نقلت من المشهد العسقلانى لمشهده القاهرى وبعيدا عن جدل لم يحسم تماما حول هذه المسألة فالمؤكد أن "حب الحسين" فى قلب مصر وعقلها.
ولئن كانت الكاتبة السورية المقيمة فى فرنسا هدى الزين قد أصدرت كتابا بعنوان :"المقاهى الأدبية فى باريس.. حكايات وتاريخ" فقد يعيد ذلك للأذهان أن المقهى كان ركيزة أساسية من ركائز الحياة والليالى الرمضانية فى حى الحسين.
فمن الذى ينسى أسماء مقاهى "الفيشاوى" الذى جلس فيه الأديب النوبلى الراحل نجيب محفوظ وكان يحلو له "الدخول فى القافية مع البارعين فيها بليالى رمضان ويتفوق عليهم بحسه الإنسانى الساخر".
وفى كتابه "الفكاهة فى مصر" يتحدث الأديب الراحل والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الدكتور شوقى ضيف عن الروح المصرية الفكهة وظهور مقاهى للمضحكين فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر وهى مقاهى كانت تتألق فى ليالى رمضان القاهرية مثل مقهى "المضحكخانة" فى حى الخليفة القاهرى ايذانا بظهور جيل أدبى لا ينسى من ظرفاء المقاهى والمجالس والمنتديات الثقافية مثل محمد البابلى وعبد العزيز البشرى والدكتور محجوب ثابت والشاعر الشهير حافظ ابراهيم الذى كان يحلو له التشنيع احيانا على بعض اصدقائه من الشعراء.
و"رمضان المصري" يعادل حى الحسين الذى لا يكاد يكتمل الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب دون قضاء ليلة فى رحاب وعبق هذا الحى القاهرى مابين المسجد الحسينى والجامع الأزهر وخان الخليلى والمقاهى.
لا يزال حى الحسين علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الإنشاد الدينى والمقاهى ومشغولات الحرفيين المهرة فيما أمسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التى تعود للعصر الفاطمى والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة.
ولئن رأى توم ويلكينسون فى كتاب جديد عن فن البناء أن العمارة ساحة لمنازلات التاريخ بل والصراعات الأيديولوجية كما أنها تعبر عن التواضع الإنسانى كما تعبر عن الصلف والعجرفة كما يتناول عملية التأويل الرمزى لبعض المبان فإن المعمار الحسينى يعبر عن أصالة المصريين وثقافتهم الإنسانية التى تحتفى بالحياة بنظرة إيمانية ثاقبة.
ومن نافلة القول إن النفحات الرمضانية تشكل واحدة من أغنى مصادر الإبداعات فى عالم المتصوفة وبتلك الليالى المباركة تحتفل مشيخة الطرق الصوفية فى محيط مسجد الحسين ومنطقة الدراسة أو "القاهرة الفاطمية" عموما حيث تتوالى حلقات الذكر.
وها هو الشاعر أحمد سويلم يؤكد تأثره بتقاليد الطفولة وحلقات الذكر باعتبار أن والده كان شيخا من كبار مشايخ المتصوفة ويوضح أنه عبر هذه الحلقات عشق شعر ابن الفارض "وهو ما فتح عينيه على الشعر وغرس حبه فى نفسه" موضحا أنه يحرص فى كل رمضان على قراءة كتابين أساسيين هما "تفسير الطبرى" و"تفسير الزمخشرى".
وإذا كان حى الحسين شكل زادا ثقافيا إبداعيا للأديب النوبلى المصرى الراحل نجيب محفوظ فلا أحد بمقدوره فى الغالب أن يفلت من تأثير المكان وهذا ما يتجلى بوضوح فى إبداعات هرم الرواية المصرية والعربية أديب نوبل نجيب محفوظ الذى ولد فى حى الحسين وعاش فى هذا الحى القاهرى طفولته وصباه وشبابه الأول.
وحى الحسين أشبه "بجامعة كبرى" لا يمكن أن يفلت من تأثيرها من عاش فيها وأحبها وانتمى إليها خلال فترة أساسية من العمر كما حدث مع نجيب محفوظ وهكذا كان من الطبيعى أن يؤثر هذا الحى القاهرى فى أدب نجيب محفوظ .
وذلك التأثير واضح كل الوضوح فى "المرحلة المحفوظية" التى يسميها النقاد باسم "المرحلة الواقعية" فكثير من أسماء رواياته مستمد من بيئة الحسين مثل "خان الخليلى" و"زقاق المدق" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" وكلها أسماء شوارع وأزقة فى حى الحسين انتقلت إلى عالم نجيب محفوظ الروائى الذى رفع راية الحسين فأصبحنا نشم رائحة هذا الحى ونكاد نرى خريطته الجغرافية والإنسانية معا كما قال الناقد الراحل رجاء النقاش.
وللمكان بذكرياته تأثيره الواضح فى إبداعات الروائيين كما يتجلى فى روايات الأديب المصرى الكبير نجيب محفوظ وهو صاحب مقولة :"المكان الذى يعشقه الكاتب يكتب عنه" .
وعن المكان فى الثلاثية قال الأديب النوبلى الراحل نجيب محفوظ: "حى الجمالية مرتع طفولتى وبعد أن رحلت عن هذا الحى إلى العباسية كانت المنطقة الجديدة مكانا واسعا وغريبا على الأقل فى البداية فكنت أميل أكثر إلى المرتع القديم بما يحمل من ذكريات أعشقها".
ويضيف محفوظ فى سلسلة مقابلات إذاعية تحولت إلى كتاب بعنوان "نجيب محفوظ يقول" :"ثم عشقت المكان الجديد فعبرت عن عشقى للمكانين معا..هذا موجود فى الثلاثية" لافتا إلى أن "المكان الذى يحتل مركزا فى وجدان الكاتب يكون مصدر إلهام له أيضا يمده بأشياء كثيرة".
فالمكان كما يقول نجيب محفوظ لمؤلف الكتاب رجب حسن هو الزاوية "التى يلتقط منها الكاتب شيئا يتعلق بإحساسه الشخصى" وكثيرا ما يسترجع المبدع أثناء الكتابة فضاء المكان والناس والأشياء داخل ذاكرة مشدودة إلى صور ماضيات أو أجواء تلاشت.. أن نجيب محفوظ الذى يدهش الكثيرين بذلك الامتداد لرواياته فى شوارع القاهرة وكان يستخدمها بيئة لعمل إبداعى كبير ويستخدم قاموسها الإنسانى.
كما استخدم الحاضر الغائب نجيب محفوظ "قاموس حى الحسين الشعبى" فى كثير من الأحيان للتعبير عن أفكاره وتجاربه ناهيك عن استخدامه لرمزية "الحارة التى تعادل العالم أو الدنيا" و"الفتوات" الذين يمثلون "القوة" ويملؤون أدبه بالحيوية فضلا عن "العنصر الصوفى" بما يولده من نشوة كبرى فى النفوس.
ولئن ارتبط جمال الغيطانى بعلاقة وثيقة مع المعلم الأكبر للرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ فإن أسماء الأماكن ذاتها قد تتردد فى أعمال ونصوص الكاتبين مع اختلاف المعالجات نظرا لأن الكاتبين معا وقعا فى هوى القاهرة المعزية والهيام بحى الحسين، كما أنهما يشتركان معا فى صفة "الانضباط" والانصياع لنظام فى الحياة.
وهكذا يمكن للقارئ أن يرى فى كتابات ونصوص نجيب محفوظ وجمال الغيطانى أسماء أماكن مثل قصر الشوق والغورية وخان الخليلى وشارع المعز وخوش قدم كما يحق القول أيضا أن معظم الأعمال الإبداعية لمحفوظ والغيطانى صدرت عن حنين إلى الزمان أو المكان أو اليهما معا فهى محاولة للسير فوق ذلك الجسر المسمى الحنين إلى عوالم مكانية وزمانية.
وكان جمال الغيطانى من كبار عشاق حى الجمالية بعمارته الإسلامية وشوارعه الضيقة وأقبيته ومساجده وزواياه وحرفييه كتعبير أصيل عن القاهرة المعزية بكل زخمها التاريخى والمعمارى والإنسانى.
وللكاتب الراحل جمال الغيطانى تأملات رمضانية خلابة من بينها طرح كتبه بعنوان "متتاليات رمضانية" يستدعى فيه ذكرياته عن الشهر الكريم ويقول "فى طفولتى والرحلة لا تزال فى بدايتها كنت أنتظر قدوم أول أيامه كما انتظر حلول ضيف عزيز يصحب معه كل جميل".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة