لعل انتشار "الفانوس الخشبى الدمياطى" فى شهر رمضان الحالى ونجاحه اللافت فى مواجهة الفوانيس المستوردة من الخارج يومىء لأهمية ثقافة العمل وإتقان الحرفة التى اقترنت بأبناء محافظة دمياط حتى تحولت الى أمثولة مصرية.
ولا ريب أن الفانوس جزء أصيل من سحر رمضان المصرى وثقافة المصريين الإيمانية التى تحتفى بالدين كما تحتفل بالحياة، ومن ثم فإن فانوس رمضان متصل بالهوية والتراث الشعبى للمصريين، غير أن ظاهرة انتشار الفانوس الخشبى الدمياطى الآن قد تتجاوز مسألة الفانوس الرمضانى على أهميتها لتلفت الأنظار لأهمية تبنى قيم ثقافة العمل والإتقان فى كل أوجه الحياة اليومية للمصريين ورهانات المستقبل.
ومحافظة دمياط الواقعة شمال شرق مصر يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة وعاصمتها مدينة دمياط والى جانب صناعة الأثاث تشتهر هذه المحافظة المصرية بصناعة الحلوى والجبن وتعليب الأسماك كما تتميز بأشجار النخيل وتضم مصيف رأس البر العريق الذى يلتقى فيه نهر النيل بالبحر المتوسط.
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسى وضع مؤخرا حجر الأساس لمدينة الأثاث الجديدة فى دمياط ضمن افتتاح 16 مشروعا جديدا بتكلفة بلغت 4,9 مليار جنيه بما يعنيه ذلك من ضخ لدماء جديدة فى شرايين الاقتصاد المصرى وتوفير المزيد من فرص العمل.
ومدينة الأثاث الجديدة بدمياط التى تضم العديد من الورش فضلا عن مركز تكنولوجى لصناعة الأثاث وصفت بحق بأنها "بوابة جديدة للصناعة المصرية" بقدر ما تشكل مركزا عالميا لصناعة برع فيها ابناء دمياط عبر الأجيال وباتت جزءا من الذاكرة الجمعية للمصريين.
ودمياط التى انجبت مثقفين أثروا بإبداعاتهم المتنوعة فى الأدب والفن والعلم الحياة المصرية مثل الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" وطاهر أبو فاشا والدكتورة لطيفة الزيات وفاروق شوشة والعالم على مصطفى مشرفة والمؤرخ جمال الشيال تشكل أيضا نموذجا مصريا مضيئا لثقافة العمل والإتقان والاعتماد على الذات وروح المبادرة حتى أنها عرفت تاريخيا بأن نسبة البطالة تكاد تنعدم فيها.
ولعل هذه الخصائص الثقافية تتجلى سواء فى تميز أبناء دمياط فى صناعة الأثاث التى حظوا فيها بشهرة إقليمية وعالمية أو فى صناعات حرفية أخرى كما تتبدى روح الابتكار مع التمسك بالأصالة والموروث الثقافى فى "الفانوس الخشبى" الذى يعد سمة من سمات رمضان المصرى هذا العام.
وقد يكون هذا "الفانوس الخشبى الدمياطى" الذى جاء فى أشكال وأحجام مختلفة ويعبر ضمنا عن براعة أبناء دمياط فى صناعة الأثاث الخشبى هو الرد المطلوب على ظاهرة أثارت القلق حتى بين المثقفين ألا وهى استشراء ظاهرة استيراد فوانيس رمضان من الخارج.
وباهتماماته الثقافية التى تتجلى فى كتاباته ها هو الكاتب والمحلل والمعلق الدكتور أسامة الغزالى حرب يوجه التحية لأعضاء فى مجلس النواب يطالبون "بوقف استيراد فوانيس رمضان" لافتا إلى تأكيدات هؤلاء النواب على أن مصر كانت تمتاز بصناعة الفوانيس.
وأشار هذا الكاتب فى جريدة الأهرام إلى أنه مع تصاعد ظاهرة استيراد فوانيس رمضان فى السنوات الماضية لم يعد فانوس رمضان رمزا فلكلوريا شعبيا للاحتفال والغناء التقليدى فى الشهر الكريم "بقدر ما صار رمزا لعجزنا عن أن نحمى حتى صناعاتنا الحرفية التقليدية العتيقة".
غير أن القلق الذى اعترى الدكتور أسامة الغزالى حرب وغيره من المثقفين المصريين له أن يتراجع كثيرا فى ضوء التقدم الواضح للفانوس الخشبى الدمياطى فى الأسواق هذا العام بما يعنى انحسار ظاهرة فوانيس رمضان المستوردة من الخارج.
وبقدر ما يعكس هذا الفانوس الدمياطى نوعا من الخروج على الإنتاج النمطى فان الظاهرة تعبر أيضا عن روح حداثية، حيث استفاد المنتجون من صفحات مواقع التواصل الاجتماعى وخاصة موقع "فيس بوك" للترويج للفانوس الخشبى الذى انتج بأياد مصرية فضلا عن سعره الرخيص بما يضمن قدرة تنافسية فى مواجهة الفوانيس المستوردة.
وبراعة الحرفى الدمياطى فى فن مثل الحفر على الخشب "الأويمة" تعبر ضمنا عن مخزون الذاكرة وثراء الهوية المصرية حيث يتجلى فى هذا الفن التمازج بين الفنون الفرعونية والقبطية والإسلامية فيما كان الكاتب الراحل على سالم قد استعاد فى طرح ينبض بالحنين لملاعب الصبا بعض المشاهد الدمياطية الدالة منوها بأن دمياط كانت تصدر فى اربعينيات القرن الماضى "الموبيليا والأحذية إلى إيطاليا وفرنسا".
وإذا كانت دمياط المنفتحة تاريخيا والتى تبلغ مساحتها نحو 1 فى المائة من مساحة مصر تشكل أمثولة مصرية فى ثقافة العمل والإتقان فثمة اتفاق عام بين المثقفين المصريين على ان هذه الثقافة واجب الوقت فى مواجهة اسئلة مثل السؤال الذى يبدو الكاتب والشاعر فاروق جويدة مهموما به وهو: "من يبنى مصر الآن"؟.
واعتبر هذا المثقف المصرى البارز ان "التخلى فى هذه اللحظة التاريخية عن المشاركة فى اعادة بناء مصر جريمة تاريخية بكل المقاييس" موضحا انه "ليس أمامنا اختيارات أخرى غير أن نلحق بالمستقبل لأنه لن ينتظرنا كثيرا ولا مستقبل لنا إلا بالعمل والإنتاج".
ولعل "أمثولة دمياط المضادة للبطالة" تقدم نوعا من الإجابة لتساؤلات مريرة للكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة حول إشكالية البطالة وضرورة استثمار الطاقة البشرية للشباب فيما أفادت بيانات منشورة بأن مدينة الأثاث الجديدة فى دمياط ستتيح أكثر من 65 ألف فرصة عمل مباشرة لأبناء هذه المحافظة المصرية التى يصل إنتاجها لنحو 70 فى المائة من إجمالى صادرات الأثاث المصرية.
وهذه المدينة الجديدة التى جاءت ثمرة لتنسيق وعمل متناغم بين عدة وزارات من بينها التخطيط والتجارة والصناعة والتضامن الاجتماعى والتنمية المحلية ستمكن صغار صناع الأثاث من امتلاك ورش صغيرة مزودة بأحدث التقنيات التى ستساعدهم على تطوير قدراتهم المهنية وتحقيق طفرات نوعية فى مستويات الجودة المتوافقة مع الأذواق العالمية وزيادة الصادرات التى بلغت فى العام الماضى 400 مليون دولار وهو رقم يتفق الخبراء على انه لا يعبر بدقة عن قيمة الأثاث المصرى الذى يتجلى فى "شارع عبد الرحمن" وهو الشارع الرئيسى لتجارة الأثاث فى دمياط.
ولا ريب انه من المفيد على صعيد تعظيم معدلات الانتاجية المصرية تعميم أمثولة دمياط التى قيل عنها انها "يابان مصر" والاهتمام بنشر ثقافة العمل والإتقان والتقاليد الحرفية العريقة التى يتميز بها أبناء دمياط ضمن توجه عام لحشد كل الطاقات الإنتاجية على امتداد الخارطة المصرية.
فى عالم بات قرية صغيرة بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات ومستحدثات التقنية يستطيع المصريون أن يقدموا كل ما هو مدهش ومفيد لهذا العالم كما تشهد "أمثولة دمياط".. أمثولة مصرية من موروث ثقافى قادر على الاسهام الإيجابى فى طرح رهانات أفضل للمستقبل..هنا فى بقعة عزيزة من الوطن وبين طلائع النخيل وهدير الورش تتواصل الأمثولة وتحتشد أمجاد وأحلام وطموحات نبيلة.