فاقت الجريمة فى مصر حدود العنف والبشاعة التى كانت تصورها قصص العنقاء والوحوش، فمن كان يتخيل أن أسبوعا واحدا قد يشهد حوادث بهذا القدر من اللانسانية والجنون، فذاك يقتل أمه وهى تصلى، وهذا يغتصب رضيعة، وهذه تعذب أبناء زوجها، وآخر يعلق رضيعه فى مروحة السقف لأنه كثير البكاء .
لن أتحدث عن دور أجهزة الأمن وتطبيق القانون ، أو حتى مدى عدالة القوانين وقدراتها على الردع ، فتلك موضوعات نالت فرصتها فى النقاش العام حتى صارت مثل الطعام البائت الذى نضعه على موائد المصدومين منا لنسد عنهم مرارة الحقيقة ، لكن ما يحدث هو العكس تماما ففى كل مرة تنتشر تفاصيل حادثة بشعة من تلك التى تتجاوز العقل ولا يستطيع المرء فهم الأسباب أو ابتلاع قدر التشوه النفسى الذى دفع بالمجرم إلى فعلته ، أشعر أن هناك قطعة جديدة من المأساة التى نعيشها تنقشع ، وتتجلى ، وأننا نواجه قدر غير مسبوق من التشوه القيمى والأخلاقى والإنسانى .
هذا هو لب الموضوع ، وما نحتاج حقا إلى أن نناقشه ، لماذا لم يعد الآباء هم الآباء الطيبون الفاضلون ، ولماذا اختلت فطرة الأمهات ؟، لماذا يشتهى رجل أربعينى طفلة رضيعة ، وكيف يمكن أن تسوّل له نفسه اغتيال طفولتها بهذه الطريقة الوحشية ، لماذا لا يشعر الشباب فى حادث التحرش الجماعى بالكرامة وعزة النفس ، وينقضون كالذباب على فتاة بزعم إرتدائها لزي غير مناسب من عدمه.
كل تلك الأسئلة وأكثر منها، نحتاج إلى أن نطرحها على أنفسنا، وأن نفكر بعمق فى إجابات لعلها تكون طريق عودة المجتمع لرشده.
فمثل تلك الجرائم الوحشية تنم عن خلل خطير فى الشخصية المصرية، وانهيار غير مسبوق فى منظومة القيم التى تشكلت فى آلاف السنوات، القيم التى بنيت عليها الحضارة المصرية الراسخة التى تجاوزت كل الثقافات والأديان التى مرت على وادى النيل، هذه الصورة السمحة عن جمهوريةمصر كبلد آمن، مهما مر بأهله من محن، ثابتون على تسامحهم وطيبته، وقيمهم الأخلاقية، هذه الصورة باتت مهددة، ومحل سؤال، وتحتاج إلى تحرك فورى واسع النطاق.
وبالطبع فأنا لا أوافق من يردون كل المصائب التى نعيشها إلى الفقر ، فالدولة المصرية ليست أفقر دول العالم ، ومع ذلك مستوى الجريمة فيها أعلى من دول أشد فقرا ، هذا إن كنا نتحدث عن معدل الجريمة بشكل عام ، أما ما أقصده هو مستوى وحشية الجرائم ونشوزها، خصوصا وأن المجتمع المصرى أحد أهم سماته الراسخة أنه مجتمع متديّن وأخلاقى وكان مشهور عنه الشهامة والرجولة .
هذا التناقض يحتاج إلى طفرة فى علم الاجتماع ، ترصد وتحلل وتخبرنا كيف نحجم هذا القدر من العنف المجتمعى غير المسبوق ، والطريق إلى عودة المجتمع إلى رشده، ويحتاج إلى تطوير الخطاب الإعلامى لمناقشة الجريمة، وبدلا من الاكتفاء بوصم الجريمة وإدانتها، نريد خطابا قادر على النفاذ إلى كافة طبقات المجتمع، قادر على توعية الضحايا المحتملون، وتوعية الآباء والأمهات، ومحاصرة الجريمة بالمعرفة والرقى.
كما إن ما يتم تقديمه من ما يوصف ظلما بالدراما والسينما الواقعية لجمهور المشاهدين هو أيضا من شأنه ةأن يكثف الصورة الذهنية عن الأبطال اللذين يعيشون خارج دولة القانون، وكيف يتفنون فى اختراق القانون والتحايل عليه، لنصورهم على إعتبارهم النماذج المشرفة فى المجتمع، ونرسخ لدى الشباب والأطفال أن الدولة المصرية ليست دولة قانون .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة