وصل الشاب الجزائرى الثائر، «مزيانى مسعود»، إلى فتحى الديب ضابط المخابرات المصرية المسؤول عن دائرة الشؤون العربية، صباح يوم 5 إبريل، «مثل هذا اليوم»، عام 1954، وفقًا لما يذكره «الديب» فى كتابه «عبدالناصر وثورة الجزائر» «دار المستقبل العربى- القاهرة».
جاء اللقاء تنفيذًا لموعد سبق تحديده يوم 3 إبريل، أثناء اجتماع لقادة أحزاب دول شمال أفريقيا مع «الديب»، وكانت الجامعة العربية هى الغطاء الرسمى والشرعى لهذا الاجتماع، الذى ناقش التخطيط لمباشرة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبى لهذه الدول، وفى هذا الاجتماع شد هذا الشاب انتباه «الديب»، بحديثه بالفرنسية ثائرًا على الحزبية والحزبيين فى بلاده، ويؤكد «الديب» أنه انتحى جانبًا بـ«محمد خيضر» أحد القادة الجزائريين الحاضرين، سائلًا إياه عن هذا الشاب، فأخبره أنه يدعى مزيانى مسعود، ووصل حديثًا إلى القاهرة بعد هروبه من السجن إثر القبض عليه لرئاسته للتنظيم العسكرى لحزب الشعب الجزائرى»، يضيف «الديب»: «طلبت من خيضر أن يحدد لى موعدًا للاجتماع بالشاب المذكور بمكتبى، وكان هذا اللقاء نقطة تحول فى خطتنا للكفاح المسلح بشمال أفريقيا التى بدأت تأخد مسارًا جديدًا فى مجال التحضير والتخطيط».
يشرح الديب قصة هذا الاجتماع الذى سيكون النقطة التى بدأ من عندها مساندة مصر للثورة الجزائرية، وتقديم الدعم الكامل لها حتى حصول الجزائر على استقلالها من الاستعمار الفرنسى، بعد احتلال دام 132 عاماً «1830-1962»: «بعد أن قدمه لى محمد خيضر وتم التعارف بيننا، استأذن خيضر فى الانصراف تاركًا المجال أمام زميله أن ينطلق بحرية تامة فى التعبير عما يجيش بصدره، وصدر زملائه الذين كلفوه بإيجاد وسيلة الاتصال المباشر بقيادة ثورة 23 يوليو 1952، وشرح ظروفهم ومخططهم لتحرير الجزائر والمطالبة بدعم كفاحهم».
ينقلنا «الديب» إلى أجواء الاجتماع وما دار فيه، قائلًا: «استغرقت أولى الجلسات الثنائية بينى وبين الشاب الثائر ثلاث ساعات مستمرة، فى شرح مستفيض باللغة الفرنسية التى ألم بها أنا إلمامًا لا بأس به، وبدأ حديثه ليقول لى: حضرت هنا عن وعى وإدراك وثقة كاملة مسبقة بثورة 23 يوليو ومسؤوليتها، ولذلك سيصارحنى بكل شىء، ولن يخفى عنى لا صغيرة أو كبيرة بل سيكون واضحًا كل الوضوح».
كان أول شىء فعله «مزيانى» فى مصارحته لـ«الديب» هو الكشف عن حقيقته، ويذكر الديب: «صارحنى أن اسم مزيانى مسعود هو اسم مستعار اتخذه لنفسه ليؤمن عملية هروبه إلى خارج الجزائر، وان اسمه الحقيقى هو أحمد بن بيللا «مواليد 1916»، وحضر إلى القاهرة مفوضًا من مجموعة قيادة التنظيم العسكرى السرى لحزب الشعب، وأنهم انشقوا لأن قيادة الحزب كلها خانت قضية الشعب الجزائرى، وأن مجموعتهم تجمع العناصر الشابة من أعضاء الحزب المؤمنين بنفس عقيدتهم، وأنهم أتموا إعدادهم عسكريًا وتدريبهم على استخدام السلاح وحرب العصابات بواسطة عناصر منهم حاربت فى الهند الصينية، وفى الحرب العالمية الثانية ضمن وحدات الجيش الفرنسى».
يكشف «الديب» عن مشاعره: «أعجبت بالثائر بين بيللا وبأسلوبه الصادق، وصدق تعبيره وعدم مبالغته فى قدرة مجموعته بل قالها وبمنتهى الصدق الصراحة، أنهم لا يتعدوا الألف شاب موزعين على كل أنحاء الجزائر، ونصفهم فقط أتم تدريبه، ولا يملكون أكثر من بضع بنادق إيطالية للصيد لا تتعدى المائتين بكثير، ورغم ذلك فهم مصرون على بدء كفاحهم المسلح، ولن تعوزهم الوسيلة للحصول على السلاح من أى مورد، إلا أنهم وبعد أن تفهموا حقيقة وأهداف ثورة 23 يوليو يتوجهون إليها بكل آمالهم وأمانيهم فى أن يجدوا منها العون والدعم المطلوب، لأنها ليست ثورة تحرير مصر وحدها بل ينظرون إليها باعتبارها الثورة العربية القادرة على دعم كل حركات التحرر العربية لتخليص الأرض العربية من نير الاستعمار بكل صوره وأشكاله».
مرت الساعات الثلاث بسرعة غير عادية، حسب وصف «الديب» الذى طلب الاكتفاء بهذا القدر مما سمع، واللقاء صباح اليوم التالى، ويعد فيه وجهة نظرهم والخطوط العامة لمخططهم فى العمل، يؤكد الديب: «تركنى الأخ بن بيللا وأنا غارق فى تفكير عميق فى محاولة للتوصل إلى أعماق تلك الشخصية الجذابة التى اكتسبت كل ثقتى بلا عناء».