مدحت صفوت
جاء في الأثر أنّ ثمة أنبياءَ عملوا في بعض مراحل أعمارهم بالرعي، ففيه تأمل في الملكوت، مراقبة وسكون، صبر وتأنٍ، دراية بالشعاب، خبرة تفرق بين السراب والماء، إيمان بأن الغيث آتٍ، بالتالي لا تعجل ولا استعجال، كلّ بأوان، والعصا لا تمل توكأ صاحبها، والرعي كالتأليف الموسيقي، لا يتقنهما إلا متمرس على الصبر، معتقد في البشارة، وعارف أن اكتمال المقطوعة يحتاج للدأب والاجتهاد والتريث.
الرعيُّ في الوديان غير السير في الفلا، فلكل خطوٍ طريق، ولكل قصة نغمة ترويها، و«راعينا» يجيد الترحال في المسارين، تعودت قدماه تمييز مسالك الأرض الخصبة ومتاهات الصحراء، يسوق الجُمل اللحنية نحو المراعي «آمنة»، رغم أنها تحمل الخوفَ على الآتي، لا يعوقها التوتر على البهجة المنشودة فوق الآكام، تؤمن أنّها قادرة على تحقيق الهدف، فالراعي، هنا، يجلس عند الغروب، متأملًا، يجيد التحدث مع ما تبقى من الضوء، يتقن فكّ شفرات رموز النجوم، يحفظ عن ظهر قلب مسارات السحب ومواقيت الضباب، يهش على الجملة تلو الأخرى، يربضها في وديان الطمأنينة، ويوردها إلى مياه الراحة.
كان «تموز» أو «دموزي» إله النباتات والماشية والمأكولات، أحد حراس بوابة السماء، المسؤول عن دورة الفصول ببعثه حيًا كلّ ستة أشهر، حسبما تَروي الحكايةُ الأولى. وهي الحكاية ذاتها التي قالت عنه «الإله الراعي» الذي أحب «عشتار» وقبل أن يتزوجا، وتسلمه للعالم السفليّ لتنجو من الموت تواعدا مرات ومرات على الرقص والغناء وسماع الموسيقى. نال لقب «الإله الراعي» لأنه كان يرعى الأغنام والماشية، وهو «دموزيد» وما يحمله الاسم من دلالات الابن المُخلِص أو البار، قد لا يحظى بمكانة في مجلس الآلهة السومرية لكنه محبوب الناس، ومحور حديث السامرين لرمزيته عن قوى الطبيعة المنتجة والخصيبة.
و«راعينا» يشبه بعض الشيء «دموزي»، لا يعتني كثيرًا بكهنة الفنون، يسمون أنفسهم أسماءَ مستعارة منها «نقاد الموسيقى»، لا يعبأ بانطباعات البعض التي فقدت في زحام النشر علميتها وغدت مجرد هوى غير منضبط. يعمل كتموز بالرعي، والأخير يرعى الأغنام ليوفر للصغار الحليب السائغ وللجوعى الزبدة الطيبة، فيما يرعى الأول موسيقاه، يشير لها على الأرض الطيبة فتنمو كعنزة الشاعر الإيطالي إمبرتو سابا «شبعانة بالعشب ومستحمة بالمطر»، يقف أمامها كإله فوق جبل الأولمب، ينفخ فتجتمع.
ومن الحكاية الأولى إلى حكايتنا، في منتصف القرن العشرين، كان «ساميّ» الصحافيّ قد أُجبر على الابتعاد عن طريق الغناء والموسيقى، بعد رفض عائلته أن يكون نجلهم «مغنواتيًا»، فالنظرة الرجعية للعاملين بمجال الفن سائدة، والمجتمع يتهمهم بالمشخصاتية تارة، ولا تُقبل شهادتهم بالمحاكم تارة أخرى، كما لم تكن الأسر المصرية تخلت عن توقير الوظائف «الميري». وكان الحلّ في التقرب من أعتاب الفنانين والبقاء قرب حدائق الموسيقيين، لجأ ساميّ إلى امتهان الصحافة والأدب، ومن بعدها كتابة السيناريو، ليقدم مع إسماعيل ياسين فيلم «إسماعيل ياسين في الجيش»، ويبدو أنّه أجلّ حلم الموسيقى لأبنائه، الذين اعتنوا بالفنّ حتى صار أحدهم قائد أوركسترا والثاني مؤلف موسيقي. وقبل أن يتحقق حلم الوالد في الولدين، تعود الأيام لتحكي الأم وزوجة سامي أن «راعينا» كان على موعد مع اكتمال أسطوريته منذ الميلاد، ففي مساء الثالث والعشرين من نوفمبر 1954، توجهت الأم للمستشفى نتيجة آلام الوضع، وتشاء الأقدار أن تنقطع الكهرباء، لتتوتر الأجواء، ماذا يمكن أن يفعل الحضور؟ يسود التوتر أكثر لفترة لا يعلم مداها أحد طويلة أم قصيرة، وحين يعود التيار يفاجئ الجميع بميلاد «الراعي».
هو راجح سامي داود الشهير بـ«راجح داود».
«رجَحَ، يَرجَح ويَرجُح ويَرجِح، رُجوحًا ورُجحانًا ورَجاحةً، فهو راجح ورجيح، والمفعول مرجوح»، تشير معان المفردة إلى الغلبة، الرزانة، والاكتمال، بخاصة اكتمال العقل، فرجح عقله، اكتمل. لكن ما علاقة الرجاحة بعودة تيار الكهرباء أو «النور» بالتعبير الشائع؟ والأهم ما الرابط بينهما والموسيقى؟ إنّها الضرورة الدرامية لاكتمال الأسطرة، فالعقل نور والرجّاحة ضياء، والغلبةُ توهجٌ. وأن ترجح كفّتك أي تفوق غيرك في الأهمية والقيمة، وهي حتمًا نتيجة تؤدي مآلات الشروق والسطوع. أما الرابط بين الموسيقى والنور، فتبرزه مقولة جبران خليل جبران «الموسيقى كالمصباح، تطردُ ظلمة النفس، وتنير القلب، فتظهر أعماقه».
وبعطاء المشوار وزخم السنوات، ارتبط اسم راجح بالموسيقى السينمائية، المعروفة بالموسيقى التصويرية، فعمل مع المخرج داود عبد السيد في أفلامه كافة، بدءًا من «الصعاليك» حتى «قدرات غير عادية» 2016، وعمل مع كامل القلوبي منذ باكورة أفلامه «ثلاثة على الطريق» و«البحر بيضحك ليه»، حتى «خريف آدم»، ومع خيري بشارة «إشارة مرور»، ومع علي بدرخان «الراعي والنساء»، ومع خالد يوسف «الريس عمر حرب»، ووضع لإيناس الدغيدي موسيقى «مذاكرات مراهقة»، وغيرها. كما ألفّ موسيقى درامية لعدد من الأعمال التلفزيونية كـ«رجل من زمن العولمة» و«المحاربون» و«الصفعة»، و«هوانم جاردن سيتي»، وهي التجربة الأبرز في وضع موسيقى لحنية لكلمات مغناة «عمل موسيقي غنائي».
وليجمع بين «خبرة الأسطى» و«علم الأستاذ» يظل راجح يبذل الجهد لإتقان الأداء والإنتاج في ورشته الفنية، دون أن يتوقف عن الطواف بين شواطئ المعرفة، يقطف ثمار الدراسة ليصبها في طرائق البحث وقوانين المنهج. فدرس التأليف على يد أستاذين نمساويين هما «توماس كريستيان دافي» و«فرانسيس بيرت»، بينما تشرب التأليف لوسائل الإعلام بواسطة «بول كونت» والموسيقى الالكترونية مع «ديتر كوفت».
تتسم أعمال «راجح» بالاعتناء بالجملة التجريدية الزاخرة بالشّدة والعمق، واختلاف الحركات المطلقة بين الصعود والهبوط، والاتصال الناتج عن التباين بين عمليتي الشحن والتفريغ، والتأليف والتركيب بين النغمات المتباعدة، والترابط بينها وآليات التكرار في المقطوعة، وهو التكرار الذي يحاكي الكون وظواهره كالصباح والمساء، الشروق والغروب، والامتداد اللانهائي فيه.
حيثما وجد البئر حلّ الوطن، هكذا يرتحل الرعاة متشابهين مع مؤلفي الموسيقى في الهيام بحثًا عن الكلأ الفني، والمنابت الموسيقية. يشمر راجح عن ذراعه، يطلق العنان للموهبة، يدخل معترك الوحيّ مستعدًا للاختبار والاختيار، يسحب من اسمه نصيبًا في التأليف، «رجّح بين الأشياء» أيّ «وازن بينها»، فيقلب الجملةَ على وجوهها، يزن النغمة بمعيار الذهب إلى أن ترجح الكفة الأمهر، وتثقل جهة الأدق والأنسب، فتتبين «رقصتين للفلوت والأوركسترا الوتري» وأخرتين عن «للفلوت والبيانو» ويظفر بـ«نصر السماء».
«راجح» راعي مدرب وخبير، لا يحب الدروب السهلة، يبحث عن الوعر ويلقي بنفسه في خضم الأدغال، يعرف أن وسط الأحراش ثمة زهور نادرة، فقط تحتاج ليدٍ مدربة وعين ثاقبة لتصل إليها. ففي «الكيت كات» لن ترى العين المسطحة سوى حيّ شعبي، وبقوة الاستدعاء يلجأ الموسيقي مُستسهل التأليف إلى الناي والآلات الشعبية المرتبطة بالحارة، لكن «الرجاحة» التي تعيّ قيمة المغامرة تفكر كيف يتجانس «العود الشرقي» و«التوزيع الأوركسترالي السيمفوني»، فتنجدل الموسيقى والصورة، ترويان الحكاية والحبكة، ولا أقول الرسالة. حين يموت «عمّ مجاهد» يدق العود شبحًا مرافقًا لصوت «الشيخ حسني»، ترتعش النغمة مع ارتعاشة يده، تصمت حين يسكت النبض، لتصبح هي الصوت حين يجر الضريرُ وراءه «التاريخَ» -رمزية العم مجاهد-، لتقول النغمات: حين تفسد النفوس، طبيعي أن يقود أعمى التاريخَ، ولا يفكر في شده سوى الحالمين.
دمج الآلات الشرقية بالأوركسترا الغربي، تكرر مع راجح في أكثر من مؤلف، ففي «عصافير النيل» مع المخرج مجدي أحمد علي، يستضيف الأوركسترا «القانون»، ليضفي بهجة حدّ وجع «عبد الرحيم» الشخصية الرئيسية بالفيلم، ويصبح للمرض الخبيث صوت مؤلم للدرجة التي لا يشفع معها روح «بسمة» حبيبة البطل التواقة نحو الخلاص. وفي «هي ودافنشي» يمزج بين الإيقاعات الشرقية كـ«الوحدة الكبيرة» والغربية كـ«الروك البطيء»، وتتجاور الآلات مثل البيانو والفيولا والناي في «شارة/ تتر» يجمع بين مقام «النوأثر» ونغمات مقام بياتي. أمّا في «خريف آدم» فكانت المغامرة الكبرى، ومحاولة الإجابة على السؤال الأصعب: كيف لآلة خرساء بوترين كالربابة أنْ تندمج مع الأوركسترا؟
يقرأ راجح السيناريو مرات ومرات، القصة تحكي عن قضايا الثأر في الصعيد، من خلال رجل صعيدي قُتل ابنه، فثأر لبنيه بقتل شاب، دفعت الظروف لأن يرتبط بآدم، فأحبه الأخير كما أحبّ ابنه. المسألة ليست بهذه البساطة فحسب، وإنما تروي الحكاية مسيرة تحولات إنسانية مرّ بها «آدم»، قد تكون تحولات جنوب مصر بكاملها بين عهدين، الملكي والجمهوري، وما بينهما من تغيرات، قد يكون الثأر بين المصريين والاستعمار الذي تسبب في بتر ساق «شداد» واغتال والد حسان في العدوان الثلاثي 1956، وقتل حسان ذاته في هزيمة 1967. يسأل راعي الألحان تلميذه عازف الكمان والممثل أحمد فهمي عن معرفته بالربابة، يشجعه بالكشف عن خبرة فهمي بالعزف على الآلة الوترية، فيتحمس «الراعي»، ويمسك هذه المرة بدلًا من الناي ربابة.
الربابة «معددة» الصعيد ومقيمة جنائزه، راوية البطولات وأمجاد سير الأولين، رفيقة البدوي في ليل الصحراء، وشاهدة على آثار السنين بقلوب المزارعين ووجوههم. هي بكاء الشرق المكتوم، أنينه المبحوح، روحه التي لا تمر عليها السنون إلا بالشقاء ونزيف الدم.
ينتهي راعي النغم راجح داود من نوتته الموسيقية لـ«خريف آدم»، يطالعها التلميذ بعمق، يتحير أولًا، ويدرك أنه مُسقط في يديه. أخيرًا يعلن أن الأمر يفوق طاقته فيرشح شابًا يعزف التشيللو، يحيى المهدي، لعله يقدر على المهمة الصعبة. يلتقي الراعي والتلميذ الجديد، يقرأ الأخير عدودة آدمه وخريفه، يوافق المهدي ويتفق على موعد للتسجيل، فيظن «داود» أنه الاعتذار المبطن، ليفاجئ بحضوره في التوقيت المحدد وتبدأ المغامرة في التجسيد.
راجح راعي يستطيع بحدسه ووعيه الظاهر أيضًا حلّ معميات السيناريو واستنطاق الرموز التي ينثرها صانعو الأفلام التي يضع لها داود موسيقاها السينمائية، فتحلّ موسيقاه جزءًا من النسيج، ولا يمكن لمتلقٍ أن يتقصدها كنتوءٍ يمكن التخلص منه، تعبر عمّا ليس سهلًا التعبير عنه بالكلمات، ومع ذلك ينجح، ما يذكر بعبارة الشاعر الفرنسيّ الشهير آرثر رامبو عن شعره «عبرت عمّا لا سبيل للتعبير عنه».
يشهد المقربون من راجح، وعلى الرغم من سمته الهادئ، فإنّه لا يعرف للمداراة سبيلًا، قد يجاملك مرة إن كنت تستحق، لكنه أبدًا لا يحابي الأوغاد، ينصب الفخاخ للشياطين، يكره «سارقيّ الفرح» بقدر محبته لـ«عصافير النيل»، الصعلكة عنده اختيار، ليست فرضًا إجباريًا تطرحه الظروف وقصر اليد.
«ليكن الشعر عونًا على الفعل» هكذا يقول الشاعر الفرنسي بول إيلوار، وموسيقى راجح داود أو «راعي الألحان» قصيدته التي يجعلها عونًا على الفعل المنحاز للإنسانية في المقام الأول، وينجذب للتمرد و«الثورة»، ويهدي شهداءها «سيمفونية»، بروحها الشبابية، ورجاحة عقلها، الحالمة بمقبل مبتسم، مُدركة أنّ الطريق للتحقيق مليء بالأشواك، وأن الحلم تتربص به آلاف الأيادي المتشربة بالدماء.
كراعي محنك، يقدر قيمتي الحزم والحسم، يمسك على الحذر، يتحلى بوقار الجدية، وقت أن تتراقص نغماته، يخبأ خلف زجاج نظارته شمعتي تراتيل، تحملان بهاء الفتنة، تقصدان وطنًا يغني للغد، وينشد أبناؤه للرب بفرحٍ، ويقضون حوائجهم في ترنم. حين أتمّ مراحل نيل «شهادة الفنون العليا» من أكاديمية فيينا، التي تعادل الدكتوراه في مصر، عُرض عليه البقاء بالنمسا لكنّه فضل العودة إلى بلاده عن مدائن مرتبة باردة، فقليل من الفوضى ضروري لنشعر أننا بشر. هنا يجد الراعي وسادته ليرتاح بعد الطواف وحراسة القطعان. يرجع بعد رحلته يغني مع أدونيس «أنا فيها الراعي.. أطوف وأغنامي ذراها وغابها ورُباها/ ليَ قلبٌ يُحِسُّ خلْج المجاهيل ويصطاد في البعيد الآها/ قَلقٌ، يحرس القطيع وينْقَضُّ على الرُّعب، شامخاً تيّاها/ ومعي النايُ - جُمِّعت فيه آفاق/ بلادي: شطآنها وقراها/ أُطلِعُ اللّحنَ، لحنها فكأني واضعٌ بين راحتيّ إلها».
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود العربي
مقال جميل
أفضل ما قرأت باليوم السابع.. شكرا لكاتب المقال