بالتزامن مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية يحتفى الغرب عبر صحفته ومنابره الثقافية بمجموعة قصصية قصيرة بعنوان "الاتهام" لمؤلف كورى شمالى كتبها باسم مستعار فيما تعبر هذه المجموعة القصصية التى جرى تهريبها للخارج عن توجهات مناهضة للنظام الحاكم فى بيونج يانج.
وبقدر ما يثير اهتمام الصحافة الثقافية الغربية بمجموعة قصص قصيرة لمؤلف كورى شمالى مجهول تساؤلات حول ما إذا كان هذا الاهتمام جزءًا من الحملة على النظام الحاكم فى بيونج يانج بقدر ما تثير المجموعة القصصية فضولا لأنها أول عمل أدبى يكتبه شخص داخل كوريا الشمالية ويناهض بوضوح هذا النظام.
فبالتزامن مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ها هى الصحافة الثقافية الأمريكية والغربية على وجه العموم تنشر ما تصفه بقصص مهربة لمنشق عن النظام الحاكم فى بيونج يانج دون أن تغفل الإشارة إلى أن هذا المنشق مازال يعيش داخل كوريا الشمالية الأمر الذى ينطوى على مخاطر جسيمة يمكن أن يتعرض لها هو وعائلته حال اكتشاف هويته .
وإذ صدرت هذه المجموعة القصصية القصيرة بعنوان :"الاتهام" باسم مستعار للمؤلف الكورى الشمالى وهو :"باندي" يضفى نقاد فى صحف غربية كبرى ك نيويورك تايمز والجارديان صفات مثل الشجاعة والإقدام على هذا المؤلف المجهول.
وعلى حد قول ميجان والش فإن هذه المجموعة القصصية القصيرة المعنونة بـ "الاتهام" تشكل "عملا أدبيا غير مسبوق وشجاعا" فيما كان مخطوط المجموعة قد جرى تهريبه من كوريا الشمالية عبر أحد أقارب المؤلف الذى مازال يعيش فى الداخل الكورى الشمالي.
وفى معرض التناول النقدى والتعليق على هذه المجموعة القصصية القصيرة تحرص الصحافة الثقافية الغربية على وصف كوريا الشمالية بصفات مخيفة مثل "مملكة الخوف التى يعيش شعبها داخل سجن كبير منذ تقسيم شبه الجزيرة الكورية فى عام 1945" مع التأكيد على أن الأدب المكتوب والمنشور داخل هذه الدولة - إن صح وصفه بالأدب- وظيفته الوحيدة تمجيد الحاكم والترويج لأيديولوجية النظام الشمولى الحاكم فى بيونج يانج.
وقامت ديبورا سميث وهى مترجمة بريطانية متخصصة فى ترجمة الأدب الكورى للانجليزية بترجمة مجموعة القصص القصيرة "الاتهام" لمؤلفها المجهول فيما وصفت الترجمة فى صحف غربية بأنها "حاذقة ومعبرة عن قدرات ثقافية رفيعة المستوى للمترجمة" التى حصلت من قبل على جائزة مان بوكر الدولية.
وفى هذه المجموعة من القصص القصيرة يلتقى القاريء بالخوف بمعانيه وألوانه المتعددة كما ترسمها صور قلمية للمؤلف الكورى الشمالى المجهول والذى يرى أن كل شخص وكل شيء "متهم" فى بلاده بينما يسيطر الخوف على الجميع سواء كان مسؤولا كبيرا فى الحزب الحاكم أو طفلا صغيرا.
فالكل خائف من ارتكاب شيء غير مسموح به أو جريمة غير مرئية والاتهام كامن دوما فى جوهر الأشياء وألوان الحياة اليومية بكوريا الشمالية كما يراها المؤلف صاحب الاسم المستعار"باندي" معتبرا أن "الخوف يزعزع كل مواطنيه" والهلاك مصير من يرتكب أفعالا قد تبدو عادية فى أماكن أخرى من العالم.
والصور المخيفة تتوالى فى مجموعة "الاتهام" مثل مصير آباء وأمهات من قد يشعر أطفالهم بنوع من الخوف أو الذعر الظاهر على ملامحهم عند رؤية ملصقات وصور للزعيم الكورى الشمالى كيم جونج اون أو والده أو جده فضلا عن ذلك الفتى الذى ضبط متلبسا بجرم الإمساك بيد فتاة وقطف زهرة لها أثناء الحداد الذى امتد طويلا عقب رحيل الزعيم كيم إيل سونج.
ويتبارى النقاد فى الصحافة الثقافية الغربية فى كيل المديح لهذا المؤلف الكورى الشمالى المجهول وهو يمضى فى رسم صور الخوف ببلاده والكتابة عن العقوبات الشنيعة التى حلت بأشخاص ارتكبوا أفعالا مثل إلحاق أضرار دون قصد بشتلات أرز كانت مخصصة لمزارع جماعية أو ذلك الشاب الذى توجه دون إذن أو تصريح لزيارة أمه التى تحتضر على فراش الموت.
ويبدو صوت المؤلف "باندى" متسائلا فى مجموعته القصصية القصيرة عن حقيقة الجرم الذى ارتكبه شخص مثل ذلك الذى عجز عن كبح جماح رغبته فى وداع أمه قبيل رحيلها، فيما يوميء عبر قصصه القصيرة إلى أن مثل تلك التساؤلات محظورة تماما فى كوريا الشمالية ولا يمكن أن يجهر بها أى شخص، وإلا فإن عقوبات قد لا تخطر بباله ستكون فى انتظاره.
وتدور قصص مجموعة "الاتهام" بين عامى 1989 و1995 لتشمل السنوات الأخيرة من حكم الزعيم الكورى الشمالى الراحل كيم ايل سونج الذى مازال يجرى الاحتفال فى بلاده بيوم مولده باعتباره "يوم الشمس" بينما يوصف المؤلف المجهول لهذه المجموعة القصصية القصيرة بأنه "الممثل الوحيد لهؤلاء الذين كتبت عليهم الحياة فى جب عميق من الظلمات".
وكاتب مجموعة القصص القصيرة "الاتهام" لا يفتقر للقدرة على رصد تفاصيل وجزئيات تشكل معا صورة مرعبة كبيرة لما يمكن وصفه "بدراما البؤس فى ارض الخوف" بينما يبدو للعين الناقدة متأثرا بقصص وروايات لأدباء وكتاب كبار مثل الروسيين مكسيم جوركى والكسندر سولجنيتسين والصينى يان ليانك.
وفى قصة "على خشبة المسرح" التى تتضمنها هذه المجموعة القصصية القصيرة تمتزج الكوكيديا بالتراجيديا ويتحدث المؤلف المجهول عن ممثل مسرحى شاب يتعرض للاستجواب جراء إقدامه على ارتجال مشهدين قصيرين بينما والد هذا الممثل وكان المسؤول عن "تقييم مدى إخلاص المواطنين فى مشاعر الحزن أثناء الحداد على رحيل الزعيم العظيم" قد طاله العقاب بدوره جراء فعلة ابنه.
أما فى قصة "هرج ومرج" فيتناول المؤلف سبل التعرف على الحقيقة المحجوبة عبر سيدة عجوز تصنع لنفسها عالما من الحكايات الخرافية حول الوحوش أو "عرين السحرة الأشرار حيث الآلام والأحزان والضحكات المشوهة".
والقصص التى يرويها منشقون نجحوا فى الفرار من كوريا الشمالية للخارج-والتى تحتفى بها الصحافة الغربية- تكشف عن انتهاكات مروعة حقا لحقوق الإنسان ولا نظير لها فى العالم المعاصر.
وبغض النظر عن الحفاوة الظاهرة بهذا العمل الأدبى فى الصحافة الثقافية الغربية فى وقت تتصاعد فيه التوترات بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة وبين كوريا الشمالية بما قد يدفع الناقد النزيه لنوع من الحذر خشية الوقوع فى غواية الحروب الثقافية فإنه من الصعوبة بمكان فى ظل النظام الشمولى الحاكم بكوريا الشمالية التعرف على ملامح أدب يقع خارج نطاق الدعاية الأيديولوجية الفجة لهذا النظام.
وفى أجواء الإرهاب الفكرى للأنظمة الشمولية -لا يكون من حق أحد أن يعترض أو ينتقد، غير أن مثقفين أحرارا يرفضون الصمت مثلما فعل واحد ممن تأثر بهم هذا المؤلف الكورى الشمالى المجهول وهو الأديب النوبلى الروسى الراحل الكسندر سولجنتسين الذى كشف عن مأساة ملايين البشر فى معسكرات العمل الإجبارى بالاتحاد السوفيتى السابق فى روايته الخالدة "ارخبيل الكولاج".
وبعيدا عن "اللغة المجنونة" فى التهديدات المتبادلة بين بيونج يانج وواشنطن ومفردات الحروب الثقافية يبقى الأدب الحقيقى منحازا للحرية وللإنسان فى كل مكان وزمان..تبقى الكلمة ويبقى الإبداع نصيرا لكل المعذبين فى الأرض وصوتا لمن لا صوت له !.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة